عيسى مخلوف

وقفة من باريس

كلماتٌ تَقتُل وأُخرى تُحيي

11 كانون الثاني 2020

10 : 54

يستطيع كتاب واحد، أحياناً، أن يُحدث تغيُّراً في المجتمع. هكذا الحال مع كتاب "المُوافَقة" للكاتبة الفرنسيّة فانيسا سبرينغورا الذي خصّصنا له مقالنا الأسبوع الماضي، بعد ثلاثة أيام من صدوره. ومنذ تلك اللحظة حتى اليوم، أي منذ أيام معدودة فقط، حدث ما لم يكن في الحسبان: دار نشر "غاليمار" اتّخذت قراراً، هو الأول من نوعه في تاريخها، يقضي بالتوقّف عن نشر كتب غبريال ماتزنيف التي كانت تصدرها منذ ثلاثين عاماً، وسحبها من المكتبات، وفيها يبشّر الكاتب بالبيدوفيليا ويصف بالتفصيل مغامراته الجنسية مع الأطفال في فرنسا وبعض الدول الإفريقية والآسيوية. بعد "غاليمار"، اتّخذت دور نشر أخرى معروفة الموقف نفسه.

بين ليلة وضحاها، تحوّلت قضية ماتزنيف إلى فضيحة وطنيّة، وما كان يُنظَر إليه بالأمس بصفته أمراً عادياً وجائزاً، أصبح اليوم محطّ اتّهام وإدانة، وأخذ المدافعون عنه، في المجالين الأدبي والإعلامي، يتنصّلون منه ويعتذرون، الواحد بعد الآخر. وهناك من ذهب أبعد من ذلك، فطالب، بالإضافة إلى محاكمة ماتزنيف، "محاكمة الإنتلجنسيا التي تواطأت معه كلّ هذه السنين"، كما عبّرت الباحثة لور مورا في مقالها المنشور في صحيفة "لوموند".

من جهة ثانية، انكبّت الحكومة على دراسة مشروع قانون جديد يحمي الأطفال. أمّا العدالة التي كانت نائمة بخصوص هذه المسألة فاستفاقت أخيراً وتحرّكت. وثمّة مسعى إلى تجريد الكاتب من الأوسمة والجوائز التي حصل عليها "تكريماً" لنتاجه الأدبي، وإلى إيقاف مساعدات مادّية كانت تصله من "المركز الوطني للكتاب" ومن بلدية باريس التي أمَّنت له السكن المجّاني.

السؤال المطروح: ما الذي حصل فجأةً، ولماذا تأخّر هذا الزلزال حتى اليوم؟ تقول فانيسا سبرينغورا في أحد تصريحاتها إنّ الذهنيات حول موضوع البيدوفيليا تغيّرت ولم تعد فرنسا الآن كما كانت في السابق. وتضيف: "لو صدر كتابي قبل خمس سنوات فقط لما كان ترك الأثر الذي تركه في هذه اللحظة". يؤكّد على كلامها هذا أنّ جائزة "رونودو" الأدبية المهمّة مُنحت لماتزنيف منذ ستّ سنوات فقط.

هذه الفضيحة التي هزّت المجتمع الفرنسي أطاحت بالكاتب الذي كان يصطاد الأطفال ويدمّر حياتهم من أجل إشعال سيجارته الجنسية، وهو، على أيّ حال، الشجرة التي تخفي غابة. وثمّة من يتداول اليوم أسماء كثيرة تنتمي مثله إلى تَرَف العبث بالطفولة وزعزعة كيانها. ولا تزال هناك فئة قليلة جداً ترى أنّ حرية التعبير الأدبي تتقدّم أيّ اعتبار آخر. "المنع ممنوع"، كان أحد شعارات ثورة أيار 1968 في فرنسا. لكنّ هذا الشعار أُسيء فهمه عندما أصبح يغطّي، باسم الإبداع الأدبي، انتهاكات كالتي تجسّدت في سلوك ماتزنيف ونتاجه، مثلما تغطّي بعض المجتمعات العربية ما يسمّى "جرائم الشرف"، ومثلما يغطّي كُتَّاب القمع، عندنا، مجازر أنظمة دمويّة تحصد الأبرياء وتدمّر بيوتهم فوق رؤوسهم.

هناك من يفرّغ الكلمات من محتواها، فتصبح، عندئذ، نقيض ما تُظهر، وتتحوّل كلمة "حبّ"، مثلاً، قناعاً يخفي الكراهية. عندما كنت أعمل بين العامين 2006 و2007 في منظمة الأمم المتحدة في نيويورك حيث يتعاطى الموظّفون الرسميّون مع كوكب الأرض مثل ميكانيكيين هُواة أمام آلة معطّلة، لاحظتُ أنّ بين الكلمات الأكثر شيوعاً واستعمالاً، في الصرح الأممي، كلمة "سلام"، وكان ممثّلو الدول العظمى الأكثر شراسة هم الذين يبالغون في استعمالها. يتشدّقون بكلمة "انفتاح" بينما يبنون جدران الفصل بين الشعوب. يبيعون الأسلحة ويتاجرون بالأرواح. البعض يقتل باسم الدين، والبعض الآخر باسم الحرّيّة وحقوق الإنسان. كذريعة للقتل أيضاً، يردّد أسياد الأنظمة الشمولية عبارات من طراز "شرف الأمّة"، ويلهج المتطرّفون الدينيّون بعبارة "مسّ الذات الإلهية". كلّ شيء مباح لممارسة التسلّط والعنف، حتّى أنّ البعض يستعمل الإشاعة، بما هي سلاح أمضى من الرصاص، لتصفية الآخر.هناك كلمات للهدم وأخرى للبناء. وهناك كلمات للقتل: الكلمات السامّة والكلمات الملغومة المليئة بالحقد والتعصّب والرغبة في الانتقام. لكن هناك أيضاً، في المقابل، كلمات تُحيي، لأنها تزرع الأمل في النفوس وتبدّد الخوف، وتفتح الآفاق، وتعمل على تشجيع الائتلاف لا الاختلاف، وتُضاعف كمّية الأوكسجين في الهواء. وثمّة كلمات يتصالح فيها الحلم والواقع، كالتي تلفّظ بها مارتن لوثر كينغ في خطابه الشهير. وكلمات أخرى تنتصر للحبّ. يتساءل الكاتب الفرنسي غبريال مارسيل: "عندما تقول لأحد: أُحبُّك، ألا يعني ذلك أنك تقول له، ضمناً، إنه حيّ يُرزَق ولن يموت؟".