برانت م. إيستوود

بوتين تأثّر بمجموعة خـاطئة من الكتّاب والفلاسفة

26 تشرين الثاني 2022

المصدر: FOREIGN POLICY RESEARCH INSTITUTE

02 : 00

ما الذي يفسّر تصرفات فلاديمير بوتين؟ حاول الكثيرون الإجابة على هذا السؤال، واستنتج معظمهم بعد غزو أوكرانيا أنه رجل شرير ووحشي ومجرم حرب. قد تنطبق هذه المواصفات عليه اليوم، لكنه لم يكن كذلك في بداية مسيرته. كان بوتين في الماضي مجرّد ضابط عادي في الاستخبارات السوفياتية، حتى أنه لم يكن مميزاً في عمله يوماً. هو نتاج الأجهزة الأمنية ومسؤول بيروقراطي أمني، لكنّ هذه الخلفية ما كانت لتجعله شريراً بالضرورة. كيف تحوّل بوتين إذاً إلى الحاكم الشرير الذي أصبح عليه اليوم؟ ما هي الكتب التي يقرأها أو الشخصيات التي يقتدي بها؟ من خلال الإجابة على هذه الأسئلة، قد نبدأ بفهم هذه الشخصية المبهمة. طوّر بوتين الفلسفة التي تبرّر تحركاته على مر السنين. بعد تحليل الشخصيات والمؤلفات التي يتابعها، يستطيع المسؤولون الغربيون أن يحددوا أفضل الاستراتيجيات لمحاصرته، أو حتى التفوق على خطواته التكتيكية وعملياته في ساحة المعركة، من خلال فهم الدوافع الكامنة وراء قناعاته الشخصية وآرائه السياسية.

يتكلم معظم مراقبي الشؤون الروسية عن تأثّر بوتين الشديد بالفيلسوف ألكسندر دوغين. يُعتبر هذا الأخير حكيماً صوفياً وقومياً متشدداً. كتب دوغين مؤلفات كثيرة، وهو محلل مؤثر يظهر بشكلٍ منتظم في البرامج التلفزيونية الروسية لطرح رأيه الخاص عن الوطنية الروسية، والتطورات الجيوسياسية، وانتماء روسيا إلى أوراسيا. يعيش دوغين اليوم في حالة حداد على ابنته التي ماتت حديثاً بسبب انفجار سيارة يُقال إن الأوكرانيين خططوا له لاستهداف والدها. قبل هذا الحدث المأسوي، كانت وسائل الإعلام الغربية تعتبره العقل المدبّر لتحركات بوتين، ومستشاره المقرّب، ومرشداً له تأثير قوي على الغزو الروسي.



ألكسندر دوغين


لكن يبدو هذا التحليل مبالغاً فيه. في النهاية، يبقى دوغين مجرّد كاتب ومفكر عام يؤمن بالقومية الروسية مثل بوتين. ولا يمكن التأكيد أصلاً على حصول لقاء بين الرجلَين.

لكن إذا لم يكن ألكسندر دوغين الاسم الذي نبحث عنه، فمن هي الشخصية التي سلبت عقل القيصر المعاصر؟ تستحق خطابات بوتين الاستكشاف لمعرفة الجواب على هذا السؤال. اشتهر الخطاب الذي ألقاه أمام مجلس الدوما ومجلس الاتحاد الروسي في العام 2005 بسبب اقتباس أصبح مألوفاً اليوم: "يجب أن يعترف الجميع بأن انهيار الاتحاد السوفياتي كان أكبـر كارثة جيوسياسيــة في القرن الماضي".



إيفان إيلين


لكن يشمل ذلك الخطاب تلميحات أكثر أهمية عن حالة بوتين الذهنية. هو استعمل مرجعاً آخر يتمثّل بالفيلسوف السياسي الروسي، إيفان إيلين. كان إيلين رجلاً متديناً وقد تصادم مع البلاشفة بسبب آرائه المعارِضة للثورة على الأرجح. وكان ينتمي إلى الروس البيض الذين حاربوا البلاشفة، وأجبره الشيوعيون على مغادرة البلد في العام 1922. كتب إيلين أربعين كتاباً على الأقل، وكان ينتقد الديمقراطية الغربية ويفضّل روسيا الأوتوقراطية، ولطالما اعتُبِر قومياً ووطنياً متطرفاً.

لكن لماذا أُعجِب بوتين بإيلين؟ في المقام الأول، يبدو أنه انجذب إلى إيمانه بـ"الديمقراطية السيادية". يظن بوتين أن روسيا تستطيع أن ترسم مسارها بنفسها، من دون المفهوم الغربي عن الليبرالية الجديدة. وفق هذا الاعتقاد، تُعتبر روسيا حضارة فريدة من نوعها.

كان إيلين أرثوذكسياً مثقفاً ومتفانياً، ولطالما تكلم عن مواضيع النهضة والانتصار على القوى الخارجية. استوحى ستيفن لي مايرز، كاتب The New Tsar: The Rise and Reign of Vladimir Putin (القيصر الجديد: صعود وعهد فلاديمير بوتين)، المقطع التالي من إيلين، وهو ينطبق على غزو أوكرانيا اليوم:

"البطل يحمل أعباء وطنه، وأعباء مصائبه، ونضاله، ورحلته البحثية، وهو ينتصر بعد تحمّل تلك الأعباء. هو ينتصر لمجرّد فعل ذلك، فيكشف للجميع طريق الخلاص، ويصبح انتصاره قدوة ومنارة، وإنجازاً ودعوة، ومصدراً للتفوق وبداية لانتصار جميع المرتبطين به عن طريق حب الوطن. لهذا السبب، يبقى هذا البطل بنظر شعبه مصدراً حياً للابتهاج والسعادة، ويصبح اسمه بحد ذاته مرادفاً للنصر".

يمكن نَسْب هوس بوتين بتحقيق انتصار روسي في أوكرانيا إلى أفكار إيلين إذاً. نتيجةً لذلك، يعتبر بوتين نفسه قائداً صالحاً يجسّد معنى المثالية ويمنح الخلاص للشعب الروسي الذي تعرّض للظلم برأيه بعد الحرب الباردة. في تلك الحقبة، وجد عدد كبير من الروس نفسه خارج الحدود الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

لكن إذا كان إيلين، لا دوغين، مرشد بوتين السياسي والروحي، فما هي التأثيرات الأدبية الأخرى المحيطة ببوتين؟ قد يشتق حبّه للعالم الروسي من "القومية السلافية": دعت هذه الحركة السياسية إلى نشوء اتحاد من جميع الشعوب السلافية في القرن التاسع عشر، حتى أن البعض ربطها بالكاتب فيودور دوستويفسكي.



فيودور دوستويفسكي


يظن تيم برينكوف، الخبير في الأدب الســـــلافي، أن دوستويفسكي وليو تولستوي هما من الكتّاب المفضلين لبوتين. حتى أن الرئيس الروسي اقتبس كلمات من تولستوي بعد اجتماعه مع نظيره الأميركي جو بايدن، فقال: "لا توجد سعادة في الحياة، بل يلوح سرابها في الأفق بكل بساطة". إنها ملاحظة وجّهها تولستوي إلى كاتب آخر اسمه إيفان بونين.

تقول الخبيرة الأدبية، نادين بيورستن، إن تولستوي أصبح داعماً للسلام بعد عمله كمراسل حربي خلال حرب القرم. كتب تولستوي في سلسلة Sevastapol Sketche: "افهموا... أن الرغبة في فرض حكومة خيالية على الآخرين عن طريق العنف ليست مجرّد خرافة مبتذلة، بل عمل إجرامي أيضاً".




ليو تولستوي


ما كان تولستوي ليوافق على غزو أوكرانيا اليوم على الأرجح. قد لا يكون بوتين متأثراً بتولستوي إذاً نتيجة دعمه للبشرية المسالمة، بل بسبب حسّه الوطني ونزعته القومية.

كان دوستويفسكي مختلفاً. كتب هانس كوهين عن حسّه القومي في العام 1945، وأجرى أبحاثاً عن رسائله كي يثبت أن هذا الكاتب الأسطوري كان يكره الغرب ويؤمن بعظمة روسيا وتفوّقها. ذكر كوهين أن دوستويفسكي كان يحترم القيصر ويدافع عنه وعن حُكمه الاستبدادي وعن الكنيسة الأرثوذكسية، ويعتبرهم "عوامل أساسية للحفاظ على القوة الروسية، وبالتالي إنقاذ البشرية".

لكن حبذا لو كان بوتين يقرأ مؤلفات كتّاب روس آخرين. من المؤسف ألا يقرأ المزيد من الأعمال الأدبية الكلاسيكية. كان الرئيس الروسي ليتأثر بطريقة أكثر إيجابية بأعمال فاسيلي غروسمان وإسحاق بابل مثلاً.

يجسّد غروسمان وبابل ما يمكن تسميته "الإنســانية الفلسفية" التي تشير إلى الإيمان بالرحمة البشرية والتعاطف والتفهم تجاه جميع الناس. إنها درجة من الإنسانية التي يفتقر إليها بوتين بكل وضوح. تظهر معالم الإنسانية الفلسفية في زمن الفوضى، وهي تشير إلى كرامة الحياة البشرية، لا سيما في زمن الحرب. تكون الإنسانية الفلسفية طموحـــة وواقعية في آن، وهي تجسّد الأشخاص والمشاهد التي تُركّز على تفاصيل واقعية من حياة البشر في أوقات الأزمات.

وُلِد غروسمان في العام 1905 في المساحة التي أصبحت أوكرانيا اليوم. هو نشأ في بلدة "بيرديشيف" ذات الأغلبية اليهودية، وكان يهودياً أيضاً. بدأ مسيرته المهنية كعالِم كيمياء محترم، لكن انجذب الأديب العظيم والموهوب ماكسيم غوركي إلى قصة غروسمان القصيرة، In the Town of Bedichev (في بلدة بيرديشيف)، ورواية أخرى له عن عمّال المناجم، وانبهر بأسلوبه. ثم سمح لغروسمان بأن يصبح مراسلاً حربياً خلال الحرب العالمية الثانية. قام غروسمان بتغطية أحداث "ستالينغراد" ومعركة برلين. لطالما حصلت مقارنة بين كتابه المؤلف من المجلّدَين، Life and Fate (الحياة والقدر) وStalingrad، وكتاب War and Peace (الحرب والسلم)، وقصص قصيرة للكاتب أنطون تشيخوف. سحبت الاستخبارات السوفياتية العمل في العام 1960 ولم يَعِش غروسمان ليشهد على نشره. طُبِع الكتاب أخيراً في الغرب خلال الثمانينات، ونُشِر في الاتحاد السوفياتي في العام 1988.




كان غروسمان يؤمن بمفهوم الفردية والحرية البشرية، إلى جانب الحب والإيمان والأمل، وكان شخصاً تفاؤلياً بشكل عام. لكن يبدو أن بوتين لم يقرأ أعماله للأسف. لو أنه قرأها، كان ليعارض الحروب والتوتاليتارية بدرجة إضافية. كانت كتابات غروسمان تحمل لمحة عن القوى التي تُعرّف الخير والشر، فتعترف بأن الخير لا يفوز في جميع الحالات، بل يستطيع البشر أن يتجاوزوا هذا الاختلاف في القناعات ويتوقوا إلى الخير. هكذا كان جوهر الإنسانية الفلسفية التي شدّدت في البداية على اللطف البشري. في هذا السياق، كتب غروسمان في كتاب Life and Fate:

"لطف البشر واضح في حياتنا اليومية، وقد يتمثل بامرأة مسنّة وهي تحمل قطعة خبز إلى سجين، أو جندي يسمح لعدو مصاب بشرب الماء من قارورته، أو شاب يتعامل بلطف مع كبار السن، أو فلاح يخبّئ يهودياً مسنّاً في قبو منزله، أو حارس سجن يجازف بحريته لنقل رسائل كتبها أحد السجناء، لا إلى رفاق الفكر، بل إلى زوجته ووالدته".

كان مفهوم "الإنسانية الفلسفية" الذي طرحه غروسمان يتمحور حول ما سمّاه "الخير العالمي"، مع أن الناس "يتبعثرون مثل الأغصان في مهب الريح" ثم يعودون إلى عمل الخير، حتى في أوقات العنف المريع خلال الحروب. كتب غروسمان أن "اللطف العرضي سلوك أبدي".



إسحاق بابل


دعم إسحاق بابل بدوره مفهوم "الإنسانية الفلسفية"، وكان مراسلاً حربياً مثل غروسمان، لكن تدور أحداث أشهر كتاب له، Red Cavalry (الفرسان الأحمر)، في سنوات ما بعد الثورة، خلال العشرينات.

وُلِد بابل في "أوديسا"، في العام 1894، ونشأ كيهودي وتابع الكتابة طوال حياته. لفتت أعماله غوركي أيضاً، فنشر مؤلفاته في وكالات أنباء متنوعة. لكن تطوّر أسلوب بابل في الكتابة بكل وضوح في العام 1920. وبتشجيع من غوركي وتحت إشرافه، انضم إلى "الجيش الأحمر" حين كان يخوض حرباً قصيرة ضد بولندا لتغطية المناوشات الحاصلة لصالح وكالة أنباء سوفياتية. هو جمع ملاحظاته من هناك وألّف القصص القصيرة الواردة في كتاب Red Cavalry الذي نُشِر في العام 1926 وتطرّق إلى جوانب الحرب القاتمة.

كان بابل واقعياً في كتاباته أيضاً، فوصف ما فعله القوزاق حين قتلوا رجلاً يهودياً بتهمة تجسّس كاذبة. وعلى غرار غروسمان، كان بابل يُركّز على التفاصيل لطرح أفكاره عن مفهوم الإنسانية الفلسفية. تألّقت كتاباته فعلياً حين تعاطف معها المدنيون الذين تأثروا سلباً بالحرب.

في المقطع التالي المأخوذ من قصة قصيرة في Red Cavalry، بعنوان At St. Valentine’s (في يوم عيد العشاق)، كانت وحدة سلاح الفرسان التي يتكلم عنها بابل تستعمل كنيسة كاثوليكية كمقر لها. تعرّف بابل الى امرأة مشرّدة اقتلعتها الحرب من أرضها، فعرض مشهداً إنسانياً محوره التعاطف والتفهم. وَصَفها بابل بأسلوبه المميز العظيم على النحو التالي:

"ظهرت امرأة مسنّة بشعرٍ أصفر منساب. كانت تتحرك مثل كلبٍ بمخلب مكسور، فتدور بسرعة وتعرج على الأرض. امتلأت عيناها برطوبة العمى البيضاء وتدفقت فيهما الدموع. كانت أصوات الأرغن المطوّلة والمتسارعة تطفو علينا. مسحت المرأة المسنّة دموعها بشعرها الأصفر، وجلست على الأرض وبدأت تُقبّل جزمتي".

أخيراً، كان بابل يؤمن بالإنسانية. لو أنه عمل كمراسل حربي في أوكرانيا اليوم، كان ليكتب عن الحرب على الأرجح من وجهة نظر اللاجئين، وكان جيش بوتين ليطرده من أرضه. لكن كان بابل ليرفض التنازل أيضاً ويتابع المجازفة بحياته على الجبهة في سبيل قول الحقيقة.

ادعى بوتين أنه تأثّر بمجموعة متنوعة من الكتّاب الروس، مثل تولستوي ودوستويفسكي. يسهل التكلم عن هذين الكاتبَين تحديداً، مع أن بوتين يقلّل من شأنهما عبر انتقاء عبارات ترضي انبهار روسيا برموز ثقافية ماضية. لكنه يتجاهل للأسف مراسلي حرب مثل غروسمان وبابل. فات الأوان على الأرجح كي تؤثر شخصيات أخرى على عقلية بوتين الاستراتيجية. لم يبقَ لنا إلا أن نفترض ما كان ليحصل لو أن بوتين قرأ المزيد من المؤلفات الأدبية التي تضع الحروب في سياقها الصحيح. لو أنه قرأ كتابات غروسمان وبابل، كان تجنب الحرب في أوكرانيا ليصبح ممكناً.