توماس لوتون

آلة أينشتاين

7 كانون الأول 2022

المصدر: New Scientist

02 : 00

تكلّم العالِم الراحل ستيفن هوكينغ، في خطاب ألقاه في جامعة "كامبريدج" في العام 1980، عن احتمال طرح "نظرية كل شيء" التي تجمع بين النسبية العامة وميكانيكا الكم في إطار معادلة شاملة وواضحة. هو اعترف بأننا نحتاج إلى بعض المساعدة من الحواسيب. ثم طرح توقعاً مستفزاً عن توسّع قدرات تلك الآلات، فقال: "قد لا تكون النهاية قريبة بالنسبة إلى مجال الفيزياء النظرية بحد ذاته، لكنها كذلك بالنسبة إلى علماء الفيزياء النظرية".



أينشتاين



حقق الذكاء الاصطناعي إنجازات كثيرة منذ ذلك الحين، لكن تباطأ علماء الفيزياء في استعمالها للبحث عن قوانين جديدة وأكثر عمقاً للطبيعة. لا يتعلق السبب بخوفهم من خسارة وظائفهم، بل إن خوارزميات التعلم العميق الكامنة وراء أنظمة الذكاء الاصطناعي تعطي أجوبة لتفسير ما يحصل بدل توضيح الأسباب.

لكننا اكتشفنا الآن طريقة لجعل خوارزميات التعلم العميق تتكلم بلغة علماء الفيزياء. يمكن تطوير قدرات الذكاء الاصطناعي لصقل مجموعات واسعة من البيانات للبحث عن أنماط خفية وتحقيق نتائج مهمة، أبرزها المعادلات. يقول ستيف برونتون من جامعة واشنطن في سياتل: "بدأنا ننتقل إلى مرحلة الاكتشاف".

لكن لا يعني ذلك أن هوكينغ كان محقاً. بدل أن ينقرض علماء الفيزياء النظرية، يبدو أنهم وجدوا أفضل الشركاء على الإطلاق. تتعلق أكبر التحديات التي يواجهونها الآن بتحديد قواعد واضعي النظريات البشرية التي يُفترض أن تُنقَل إلى الآلات الأخرى كي لا تبقى متعثرة بالشكل الذي هي عليه اليوم.

تُسهّل خوارزميات التعلم العميق عمل قواعد البيانات الكبرى. هذا ما يفسّر السبب الذي جعل مايلز كرانمر من جامعة "برينستون" يحاول منذ سنوات الجمع بين نقاط قوة التقنيتَين معاً: قوة رصد الأنماط في التعلم العميق، ونواتج الانحدار الرمزي التي يسهل تفسيرها. ابتكر باتريك لانغلي من جامعة "كارنيغي ميلون" في بنسلفانيا مقاربة "الانحدار الرمزي" خلال السبعينات، ثم قام آخرون بإعادة إحيائها وصقلها. تعطي هذه التقنية مفعولها عبر تصفح المعادلات التي تشمل رموزاً رياضية متنوعة، أو عمليات مثل الجمع والضرب، أو مجموعة من التغيرات الفيزيائية مثل الموقع أو السرعة، بطريقة منهجية.



ستيفن هوكينغ



أضاف العلماء شبكة عصبية للتعلم العميق إلى بيانات وكالة "ناسا" الحقيقية عن الكواكب والأقمار التي تدور في نظامنا الشمسي. تجمّدت الشبكة العصبية بعدما رصدت الأنماط في تلك البيانات. ثم أُضيفت سلسلة من الأرقام إلى الشبكة العصبية، وشكّلت النواتج قاعدة بيانات جديدة تعكس تلك الأنماط وتناسب الانحدار الرمزي، ما يسمح له بإيجاد المعادلات الملائمة. جاءت خوارزمية الانحدار الرمزي (PySR) لتعيد اكتشاف قانون الجاذبية الذي وضعه إسحاق نيوتن عبر استعمال بعض البيانات الأولية.

في آذار 2022، استعملت هيلين شاو وزملاؤها من جامعة "برينستون" خوارزمية الانحدار الرمزي لاكتشاف معادلة تتوقع مزايا كتلة من المادة المظلمة انطلاقاً من خصائص أخرى مثل سرعة تشكّل النجوم في المجرات. أعطت هذه المعادلة نتائج دقيقة على نحو مفاجئ في معظم المجرات.

تميل برامج الانحدار الرمزي إلى طرح معادلات قابلة للتعميم أكثر من تلك التي تستعملها الشبكات العصبية الخاصة بالتعلم العميق، إذ غالباً ما تبدو هذه الأخيرة غير منطقية عند تطبيقها على سيناريوات غير مألوفة. تقول شاو: "لا حاجة في هذه الحالة إلى التنبه إلى أدق التفاصيل في قاعدة محددة من البيانات".

من المعروف أن تطابق الرموز الرياضية مع البيانات ليس الطريقة الوحيدة لفهم العالم. توصّل ألبرت أينشتاين إلى نظريته عن النسبية العامة عبر سلسلة من التجارب الفكرية الخيالية. ثم جاءت ملاحظات متنوعة، كتلك المتعلقة بحركة كوكب عطارد غير المألوفة في السماء ليلاً، لتؤكد على النسبية العامة بدل أن تكون مصدر إلهام لتلك النظرية. في غضون ذلك، كانت معادلة تجريبية معروفة باسم "قانون بلانك" ومستعملة لوصف انبعاث الأشعة من الأجسام تمهيداً للتعمق في العالم المجهري.

يعتبر كرانمر المعادلات التجريبية نقطة انطلاق للتعمق بالحقائق بدل أن تكون حقيقة بحد ذاتها: "نحن لم نصل بعد إلى مرحلة اعتبار المعادلات الجديدة اكتشافاً فعلياً. لكني أتوقع أن تنتج نماذج هجينة من الانحدار الرمزي والتعلم العميق اكتشافات علمية كبرى، مثل تحديد طبيعة المادة المظلمة أو التأكد من وجودها خلال عشر سنوات".

هذه التعابير الرمزية قد توجّه علماء الفيزياء، فتساعدهم على إحراز تقدّم إضافي. يوضح كرانمر: "عند التعبير عن نموذج التعلم العميق بهذه اللغة، يمكن رصد الروابط مع النظرية المعتمدة فوراً". لا يزال دور العلماء في دراسة هذه المعادلات أساسياً، فهم يفهمون أشكالها وطريقة ارتباطها ببعضها البعض وبعلم الفيزياء ككل، حتى الآن على الأقل.

لم يشارك بابلو ليموس من جامعة مونتريال الكندية في إعادة اكتشاف قانون نيوتن للجاذبية، لكنه يشتبه بأن الانحدار الرمزي قد يصبح جزءاً من النقاشات المرتبطة بطبيعة المادة المظلمة والطاقة المظلمة قريباً. تُعتبر هذه الطاقة كياناً غامضاً آخر قد يكون وراء توسّع الكون. يوضح ليموس: "من الواضح أننا عالقون في الدوامة نفسها. قد يسلّط هذا الجانب الضوء على طريقة مراجعة البيانات".

بدأ كرانمر وآخرون يفكرون منذ الآن بطريقة تطوير الذكاء الاصطناعي لإيجاد نُسَخهم الخاصة من قوانين الطبيعة الأساسية. تقضي إحدى الاستراتيجيات المحتملة باستخلاص المعايير الثقافية من قواعد علماء الفيزياء. ثمة نزعة راسخة إلى البساطة أصلاً في خوارزمية الانحدار الرمزي وبرامج أخرى من هذا النوع. كانت هذه النزعة تُعرَف طوال قرون بمبدأ "شفرة أوكام" الذي يشير إلى التخلص من التفسيرات المعقدة وغير الضرورية أو حذف الرموز المفرطة في المعادلات.

في مجال الانحدار الرمزي، تحصل مقايضة بين الدقة والبساطة بشكل عام. إذا كانت المعادلات التي تنجم عن استعمال هذا النهج بالغة التعقيد، يمكننا مضاهاة البيانات التي نستعملها بدقة متزايدة نظراً إلى تعدد الجوانب القابلة للتعديل. تُسمّى هذه العملية "المبالغة في الإحكام"، وهي تزيد احتمال أن تتراجع دقة التعبير الرياضي خارج قاعدة بياناته التجريبية. بعبارة أخرى، لا يمكن تعميم هذا الاستنتاج. لكن عند استعمال تعابير أكثر بساطة، تتحسّن فرصة رصد آلية فعلية برأي برونتون. يعتبر كرانمر هذه المقايضة سبباً محتملاً لتطابق خوارزمية الانحدار الرمزي مع قانون نيوتن للجاذبية، بدل معادلات أينشتاين عن النسبية العامة، عند استعمالها مع البيانات المدارية من وكالة "ناسا".


مايلز كرانمر




يُعتبر التناظر، وفق تعريف علماء الفيزياء، معياراً توجيهياً آخر لمن يبحث عن قوانين طبيعة عالمية. هو يشير إلى القدرة على تحويل كيان معيّن والعودة إلى نقطة البداية في نهاية المطاف. تستطيع أنظمة الذكاء الاصطناعي اليوم أن تجعل المشاكل الفيزيائية أكثر تماثلاً. في الفترة الأخيرة قام بروتون، بالتعاون مع خوسيه ناثان كوتز من جامعة واشنطن أيضاً، بإضافة معلومات عن أنواع متعددة من التناظر إلى برنامج SINDy الذي يستخرج المعادلات لوصف السلوكيات المعقدة للسوائل المتدفقة. يوضح برونتون: "غالباً ما نحصل على نماذج أفضل عبر أصغر قدرٍ من البيانات لأنها تكون أكثر دقة وتستطيع تحمّل مصادر التشويش".

على صعيد آخر، يبرز شكل من "الجمال" أو "الرونق" الرياضي الذي يصعب تعريفه، لكن يتابع عدد كبير من علماء الفيزياء البحث عنه عند تطوير نظريات جديدة. يمكن إضافة هذه المنهجيات والقيم كلها إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تبحث عن معادلات جديدة، لكن يذكر عالِم الفيزياء جيسي ثالر من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن حدسنا بشأن الواقع كان مفيداً في الماضي لكنه ضلّلنا أيضاً.

نتيجةً لذلك، يحذر ثالر من جعل الذكاء الاصطناعي أقرب ما يكون إلى البشر لأن هذه المحاولات تجازف بتفويت أبرز وعوده الثورية، أي القدرة على طرح وجهة نظر جديدة. يوافقه ليموس الرأي، فيقول: "يجب ألا يحصل الذكاء الاصطناعي على درجة مفرطة من الحدس البشري لأن الهدف النهائي يتعلق باستعماله لإيجاد معادلات يعجز البشر عن رصدها. قد يتعثر هذا النهج في نهاية المطاف مثلما تعثرنا حتى الآن".

يتذكر ثالر أنه صمّم ذكاءً اصطناعياً لمعالجة مشكلة لم يتمكن من حلّها طوال عشر سنوات، فحصل بفضله على حل سريع ثم بدأ التدقيق به. يوضح ثالر: "شعرتُ بالإحراج لأنني لم أفكر بهذا الحل من تلقاء نفسي. لقد أدركتُ أنني كنتُ أحمل حُكماً مسبقاً على طريقة حل المشكلة، فزادت الضغوط على طريقة تفكيري البشرية".




ماكس بلانك



يحتاج الذكاء الاصطناعي إلى هامش من الحرية، بدل إجباره على التفكير مثل البشر، كي يتمكن من البحث عن جميع المقاربات الممكنة لحل المشاكل وتقييم مختلف تركيبات الرموز كحلول محتملة. يعترف ثالر بأن علماء الفيزياء يجب أن يغيروا طريقة تفكيرهم: "لقد تدرّبتُ على التفكير بقوانين الطبيعة في هذا الكون. لكني أتساءل الآن: ما هي مساحة جميع القواعد المحتملة؟ هذا هو المطلوب إذا كنا جدّيين في مساعينا لجعل الذكاء الاصطناعي يحرز تقدماً بارزاً في علم الفيزياء الأساسي".

حتى الآن، يتفوق الانحدار الرمزي على المشككين بالذكاء الاصطناعي. يقول كرانمر: "قد يكره عدد من أهم واضعي النظريات تقنية التعلّم الآلي، لكنهم يعجبون بالانحدار الرمزي في معظم الأوقات عند تعريفهم عليه، لأنه يمنحنا تعابير يمكن تدوينها على الورق وتفسيرها". في هذا السياق، يُعتبر الانحدار الرمزي مجرّد أداة أخرى يمكن إضافتها إلى أجهزة التلسكوب والحواسيب وحساب التفاضل والتكامل. لا تكون الحواسيب فضولية بطبيعتها، لذا يضطر البشـــر في جميــع الحالات لطرح الأسئلة مسبقاً. يضيف ثالر: "لا يزال البشر مضطرين لتحـديد الإطار الذي نعمل فيه قبل أن يراجع الحاسوب كل تفصيل ويُقيّمه".

لكن مع ظهور لغة مشتركة بين علماء الفيزياء والذكاء الاصطناعي اليوم، نشأ نوع جديد من الحوار وقد يغيّر مسار تطوير علاقة تعاون صادقة بين الطرفَين. إنها بداية تغيّر جذري برأي ثالر.