شربل داغر

ما أمتعَ المونديال!

19 كانون الأول 2022

02 : 01

أحبُ كرة القدم. أتابعُها بمتعة خالصة، لا توازيها أي لعبة أو رياضة أخرى. أتابعُها بوصفي "متفرجاً منخرطاً"، كما تحدث ريمون آرون في أمر آخر.

احببتُها منذ صغري، بل مارستُها من دون احتراف، إلى أن تأكدتُ من طبيب العيون، وأنا في الثالثة عشرة من عمري، من لزوم ملازمتي نظاراتي الطبية من دون انقطاع.

تولعتُ بها، حتى إنني اشتريت كرة للمحترفين، بمصروف عيديتي، ونقلتُها معي إلى وطى حوب للعبِ مع رفاق العطلة الصيفية، فوق ضفة النهر.

كانت من الهوايات التي بلغَني سحرُها مع بيليه... في أسرع وأخف مشاركة طفولية في عيد عالمي، أشعر به لأول مرة.

لم تكن الحرب ما يشغلني فيها، بل الخفة والمناورة والتسديد. لهذا لم أشترك في تدوينات السياسة المستعادة، المكرورة، الشوفينية أحياناً، في التعامل مع المونديال، لا سيما بعد انتصار المغرب التاريخي.

فقد حَمّل مثقفون ومثقفون هذا الفريق المدهش خيباتهم ومكبوتاتهم. ما لا يصلون إليه في السياسة (من فلسطين حتى مناهضة الإمبريالية)،

وما لا يشاركون فيه احياناً، أو يخشون من رفع مطالبه، حمَّلوه لهؤلاء اللاعبِين، كما لو انه كرة قدم، وقابلة للتسديد من غيرهم، لا منهم.

هذا النقص الفادح في السياسة، هذه الرغبة العالية في انتصارات، في بطولات، نطالب لاعبي منتخب وطني بتسجيلها لنا، بأسمائنا الجمعية.

هذا كله يُرينا اننا ننطلق من فكر إجماعي، من مشاعر عمومية، فيما نغفل اللعب والتمرير والمناورة والتهديف وغيرها.

فأي فريق وطني لن يمنعني من تغييب تمريرات ميسي المدهشة، أو توثبات مبابي الهجومية، أو تحليق اللاعب المغربي صوب الكرة العالية، التي باتت معه قريبة المنال...

كرة القدم تلازم السياسة حكماً، إذ يتوكل بها ممثلو دولة، وتشبه في معاركها قليلا لعبة الحرب القديمة، حيث المبارزة في سهل بين جيشَين متراصّين.

الأكيد ان لعبة كرة القدم تتغير، في هوية فرقها، وخططها، واساليب لعبها، و"نجوميتها"، واقتصاد "النجاح" فيها. بل اصبحت - بدعوى التساوي والمشاركة - لعبة نسائية، إذ بتن يتمتعن بالتفرج عليها، وبممارستها احترافياً، مع بطولات خاصة بهن.

لم يحدث لرياضة، للعبة، مثل هذا الاحتشاد العالمي، بدليل مليارات الدولارات التي تتوزع بين تحضيرها والكسب منها.

لم يَحدث أن تحلق أكثر من مليار بشري حول طابة كروية تكاد ترمز إلى الكرة الأرضية، فيلهون بها ويمرحون ويصيحون، ويتبارزون من دون ضحايا (إلا في ما ندر).

هذه الخفة التي في أقدامنا، ولو بأقدام غيرنا، تعيدنا إلى طفولتنا المرحة واللاهية، وإلى انتصاراتنا التي نتبادل بعدها التهاني والعناق.

من ناحيتي، تمتعتُ كثيراً بهذا المونديال، ووجدتُ أن اللعبة باتت "مفتوحة" اكثر في احتمالاتها بين منتخبات صاعدة وأخرى متراجعة.

وفرحتُ حين وجدتُ، كما كثيرين غيري من دون شك، أن للعرب ما يعرضونه للعالم أكثر من وجوه العنف والكراهية التي تبقِّع، في أحيان كثيرة، شاشات العالم قبل المونديال وبعده.