د. غريس الياس

"من يدحرج الحجر؟ مصير مسيحيي الشرق" لوائل خير

19 كانون الأول 2022

02 : 03

بعد تراجع الانتشار المسيحيّ في الشرق الأوسط بفعل الحروب والأزمات والأنظمة الديكتاتوريّة الشموليّة، وإقصائهم عن المشاركة السياسيّة وغياب القوانين التي تحميهم في السنوات العشرين الأخيرة، بخاصة في فلسطين وسوريا والعراق، نرى ان الأقليات هي أولى ضحايا أنظمة هذه المنطقة.

لذلك، يجد المسيحيّون أنفسهم في الشرق الأوسط محاصرين بالهواجس واختلال الميزان الديموغرافيّ، فيما أدّت الهجرة إلى تراجع الوجود المسيحي، ولم يبقوا مؤثّرين إلا في لبنان، فمسيحيّو لبنان ما زالوا حتى الآن يحافظون على وجودهم في السلطة السياسيّة. ولكن الى متى؟

إلا ان الخطر الأساسي على الأقليات في لبنان وبالتحديد على المسيحيين هو في عدم وجود ثقافة احترام الآخر المختلف، حيث تتعرض للتهميش تدريجياً من جانب الجماعة المُهيمنة، بحيث ان ضعف وغياب دولة القانون لا يساعد في حمايتها بل يُغذي هيمنة الجماعة الأقوى على كل مفاصل الدولة؛ هذا فضلاً عن فقدان الزعماء المسيحيين للنفوذ الذي طالما كان يحمي الطائفة، فيشعر المسيحيون بخطر الذميّة المتنامي، وبخوفٍ من الذوبان.

في هذا السياق، جاءت مبادرة تتردّد في كل حين، لإقتراح الحل المثالي لكل أزماتنا السياسيّة، واختزالها واختصارها بأن "الحل السحري" يكمن بإلغاء الطائفيّة السياسيّة والمطالبة بجعل لبنان دائرة انتخابيّة واحدة خارج القيّد الطائفي، مع ما يعنيه ذلك من حكم إعدام وإقصاء وإلغاء للأقليات الثقافية في لبنان وسيطرة لحُكم الأكثريّة العددية، سيطرة الأقوى عددياً وتنظيمياً. وذلك كله بإتباع تقيّة سياسيّة تخفي الأهداف المبطنة لجماعة محدّدة، تطلق أجندتها السياسيّة وتنشرها في الأوساط الفكريّة والسياسيّة والاعلاميّة، والأخطر من هذا كله ان الجماعات المسيحيّة تتبنى هذه الأفكار المبطنة وتعتبرها هي الحل، فتستكمل بذلك مسيرة الدمار والإندثار لما تبقى من الدور السياسي المسيحي وذلك على أيدي أهل البيت.

من هنا جاء كتاب المفكر والاستاذ وائل خير في هذه الفترة التاريخيّة المصيريّة التي يمر بها لبنان ليتناول أوضاع الطائفة الارثوذكسيّة في لبنان كأحد المكونات الأساسيّة المعترف بها والمُمثلة في النظام السياسي اللبناني، ويتكلم عن مسارها التاريخي وليصوب المسار الصحيح لخروج الطائفة الارثوذكسيّة من خطر الاضمحلال التاريخي في لبنان وبالتالي، "الإختفاء". فإنّ مسيرة التاريخ الجارفة، لا تتعامل إلا مع الأقوياء وأصحاب الدور والحضور والتأثير الفاعل والحاسم، الذين يعرفون كيف يحافظون على القوّة إذا امتلكوها، وعلى الدور إذا ما قُدِّر لهم الاضطلاع به.

الكتاب صادر عن منشورات الشرق، يتألف من 332 صفحة، يستند بقسم منه على العديد من المصادر والمراجع وبقسم على التجارب الشخصيّة التي مرّ بها الكاتب بحكم مسيرته المهنيّة الغنيّة، والرائدة بالدفاع عن حقوق الإنسان وبخاصة انه كان له دور مؤسّس ومؤثر جداً في مؤسسة حقوق الإنسان والحق الإنساني، وكان منتسباً الى مجلس كنائس الشرق الأوسط الذي أتاح له معرفة مسيحيّي الشرق الأوسط عن كثب.

يتوقع الكاتب ان تنتهي هذه المرحلة بتبدلات عميقة في بنيَة لبنان الداخليّة، حيث يعتقد ان المسيحيين عامّة ستتراجع مكانتهم، وستكون الطائفة الأرثوذكسيّة الخاسر الأكبر ولن يبقى لها سوى الهجرة.

ويلقي الكاتب الضوء على التنظيم الأهم حالياً لدى الطائفة الأرثوذكسيّة، وهو "اللقاء الأرثوذكسي"، الذي تأسس في العام 2009، والذي يضم أكبر عدد من السياسيّين الأرثوذكس وبعض رجال الاعمال. ومن أهم إنجازات "اللقاء"، ترويجه لـ"المشروع الأرثوذكسي" كما كانوا أول من أدرك أهميّة الإتصال بروسيا الإتحاديّة ومحاولة إعادة إحياء العلاقة التاريخيّة بين روسيا وأرثوذكس لبنان.

ويرى الكاتب انه ما بين الاعوام 1965 و1975 جرت أحداث مصيريّة، كان لها تأثير ملموس على المجتمع المسيحي في الشرق الأوسط ولبنان بشكل خاص. الأحداث الأربعة كانت: المجمع الفاتيكاني الثاني 1962-1965، الحركة الطلابية في فرنسا (أيار/ مايو 1968)، بروز المقاومة الفلسطينية كعامل أساسيّ في السياسة اللبنانية الداخلية منذ 1967-1982، وأيضاً إنشاء "مجلس كنائس الشرق الأوسط" في العام 1974.

ويشير الكاتب الى أهمية التأثير الكبير للحركة الطلابيّة العالميّة-حركة أيار/ مايو 1968: "هذه الحركة، وإن فشلت في الظاهر، تبيّن لاحقاً أنّها إنتقلت الى العمل في العمق عبر إجراء تحوّلات في البنى الفكريّة تأثّراً بآراء أنطونيو غرامشي الذي عزا فشل الماركسيّة التقليديّة في تبديل المجتمع بشكل جوهريّ، إلى إهمال الماركسييّن البناء الفوقي (الثقافي) وإعتبار البناء السفلي (الاقتصادي) هو كل ما يلزم للتحوّل الثوري. ابتدأ هؤلاء الماركسيون الجدد بالتركيز على الهيكلية غير الإقتصاديّة للمجتمع والعمل على تفكيكها: العائلة، الأديان، القيم التقليديّة المتلازمة مع التصرّف الجنسي وكل مسلّم اجتماعي تقليدي. كانت تلك بداية ما يسمى بـ"التفكيك" Deconstruction". ونحن اليوم نعيشه.

هذان الحدثان بحسب الكاتب: المجمع الفاتيكاني الثاني وحركة أيار/ مايو 1968، يضعان الخطوط العريضة لتأثير العالم الخارجيّ على أوضاع المسيحيّين في لبنان. لكنّ عاملين محليّين تضافرا فأكملا الصورة، هما منظمة التحرير الفلسطينية 1968 ودخولها الى لبنان 1970: فمن المؤسّسات في لبنان التي أقامت "منظمة التحرير الفلسطينيّة" علاقة وثيقة معها كان "مجلس كنائس الشرق الأوسط". على صعيد حرب لبنان، كان يرى الأستاذ كبرييل حبيب الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط والمطران جورج خضر ان انتصار الفريق المسيحي في حرب لبنان انتصاراً للعدو التاريخي للأرثوذكسيّة، فيما لم يريا في انتصار الفريق الثاني هزيمة للمسيحيّين. ويروي الكاتب "ان ميزانيّة الأمانة العامة نظّمت ومولت جولات في أوروبا وأميركا للمطران خضر والأمين العام حبيب لعرض القضيّة اللبنانيّة لمجموعات مسيحيّة أميركيّة وأوروبيّة. كان المحضران الزائران يؤكّدان للحضور أنّ المسيحيّين في لبنان هم المعتدون ومرتكبو المجازر، علماً أنّ الإحصاءات أظهرت أن من بين كلّ عشر مدنيين قتلوا في حرب لبنان، ثمانية منهم كانوا مسيحيّين. علّق لاحقاً الدكتور فريد الخازن الذي كان في أميركا في تلك الفترة يعمل على أطروحة الدكتوراه: "لم يؤذِ القضيّة اللبنانيّة أحد بمقدار هؤلاء"".

ويؤكدّ الكاتب: "يخطئ من يستنتج من إيراد هذه الحقائق أنّ هزيمة المسيحيّين وانحسار وجودهم في لبنان والشرق مردّه محاضرة لهذا المطران أو ذاك، أو مؤتمراً دعا إليه أمين عام "مجلس كنائس الشرق الأوسط". الأحداث الكبرى هي أشد تعقيداً وأعمق جذوراً من مشيئة الأفراد. هزيمة المسيحيّين في لبنان تعود لأسباب بنيويّة كتوسيع حدود لبنان القديم، وديمغرافيّته. هناك أسباب أخرى تتعلّق بالقيادات وتفكّكها وأيضاً بقرارات خاطئة اتخذتها، وتوقيت سيئ لقرارات ليست بالضرورة سيئة".

ومن أبرز المقترحات الإصلاحية التي يقترحها الكاتب، إصلاحات عميقة وجذريّة أهمها من ناحية إصلاحات تتناول بنية الكنيسة الأنطاكية، ومن ناحية ثانيّة إصلاحات ذات طابع سياسيّ-قانونيّ يضمن التمثيل في أوساط الدولة في لبنان بطريقة منصفة ابتداء بالمجلس النيابيّ والسلطة التنفيذيّة. ويشير الكاتب ان الارثوذكس في المجلس النيابي يمثلهم 14 نائباً، ويرى انهم أقل النواب تمثيلاً لمصلحة طائفتهم" لا لقصور في إمكانيّاتهم الذاتيّة أو إهمالهم مصالح المكوّن الذي يمثلون، بل لأنّهم يأتون جميعاً إلى الندوة البرلمانية بناء على اختيار رؤساء لوائح من غير الأرثوذكس ويصوّت لهم ناخبون غير أرثوذكس. فباتوا ممثلين لجميع الطوائف ما عدا الأرثوذكس. والأمر ينطبق أيضاً على الوزراء".

يرى الأستاذ وائل خير ان أي خطّة عمل لإعادة الإشراق إلى الوجود الأرثوذكسي في لبنان يجب أن تأخذ في الإعتبار البديهيّات الآتية:

البديهية الأولى: إنّ الطوائف هي أساس الحياة العامة في لبنان.

البديهيّة الثانية: إنّ قوة كلّ طائفة ونفوذها ترجع الى عناصر ذاتيّة تتضمّن حجمها ومؤسساتها وأملاكها-إنماء مواردها وحسن إدارتها- ومستوى قياداتها والوضع الاقتصادي والعلمي والصحي والمعنوي لأعضائها ولتمركزها الجغرافي، بحيث تتزايد قوّتها ونفوذها بمقدار قربها من التحكّم بالعاصمة حيث العصب السياسي والقرار.

البديهية الثالثة: ليس العنصر الداخليّ بالمؤثر الوحيد. هناك أيضاً عنصر التحالف الخارجي الذي يمكن أن يكون طارئاً كما يمكن أن يكون عضوياً. العنصر الدائم هو التلازم التاريخي بين مكوّن من مكوّنات لبنان وقوّة خارجيّة تشدّها الى المكون اللبناني أواصر دينيّة.

غير أنّ المسيحيّين بحسب الكاتب فقدوا هذا الظهير الخارجي بسبب علمانيّة أوروبا الغربيّة، وعدم اكتراث الولايات المتحدة، فلاح في الأفق أمل لهم، بإستعادة روسيا الإتحادية دورها التاريخي، ليس فقط من الناحية النظريّة، بل أيضاً بلعبها دوراً حاسماً منذ العام 2015 في كل ما يجري في سوريا. فما يجمع بين روسيا والأرثوذكس في المنطقة تراث يمتدّ لمئات السنين يمكن إعادة إحيائه لمصلحة الطرفين.

ويلقي الكاتب الضوء على اهميّة لقاء هافانا بين البابا فرنسيس والبطريرك كيريل في 12 شباط 2016. فهو حدث تاريخي مفصليّ، إنه اللقاء الأول في التاريخ بين رئيسي الكنيستين الروسيّة والكاثوليكيّة. ومن أبرز ما جاء فيه: "على أنظارنا أن تتّجه أولاً الى مناطق من العالم حيث يقع المسيحيون ضحيّة اضطهادات في عدد من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حيث عائلات بأكملها، وقرى ومدن لإخوة لنا وأخوات في المسيح هم ضحايا إبادة كاملة. كنائسهم إقتُحمت بشراسة ونُهبت، أوانيهم المقدّسة دُنّست كما أنّ صروحهم دمّرت. بألم نذكر سوريا والعراق وبلدان أخرى من الشرق الأوسط".

المسيحيّون اليوم، كنائسَ وسياسيّين ومجتمعاً، يمرّون بامتحانٍ خطيرٍ. كلّ ملامح الانهيار ظاهرة. فهل يكون هذا الامر سبباً لنهضةٍ سياسيةٍ أم سيؤدّي ذلك إلى السقوط والفناء؟ يختم الكاتب أطروحته بأن خطة الله الأزليّة تبقى هي الخلاص لمسيحيي لبنان الذين يتشاركون مع النسوة حاملات الطيب في التساؤل الوجودي "من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر"؟.


MISS 3