محمد علي مقلد

نظام التفاهة (3)

فن المماحكة

31 كانون الأول 2022

02 : 00

أحدث المماحكات تجلّى في ما ترافق مع مقتل جندي في القوات الدولية وما أعقبه في الرد على برنامج تلفزيوني ساخر. الثنائي طرف في المرتين، وهو في الإجمال طرف في معظم المماحكات، أكبرها وأصغرها، من الشغور الرئاسي حتى اشتباكات المطلوبين مع الجيش، ما يعني أنه هو المسؤول عن استدراج دبّ النقد إلى زرعه.

أول كتاب أصدرناه عن «الأصوليات» تناولنا في معظمه نقد الأصوليات اليسارية، وآخر كتاب عن «أحزاب الله»، وحصّة الحزب الشيوعي من النقد فيه أكبر من حصة الأحزاب الدينية. في الكتاب الأول نقد لمنهج التفكير عموماً لدى الأصوليات، وفي الثاني نقد لمنهج تفكير الأحزاب الشمولية في موضوع الدولة.

أهم درس تعلمته من تجربتي الحزبية أنّ النقد الذاتي هو مفتاح البحث عن حلول. هو التزام بالقول السقراطي، «إعرف نفسك»، والقرآني، «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، والإنجيلي، «لماذا تنظر إلى القشة في عين أخيك ولا تبالي بالخشبة في عينك؟» وبقول الإمام علي، «من نصّب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره».

أمّا الاكتفاء من النقد بنقد الآخر، فهو عند كبار قومنا سجالات عقيمة وعند صغارهم مماحكات تافهة. في أقل البلدان شأناً على صعيد الديمقراطية يستقيل وزير الكهرباء إذا انقطع التيار ساعة من الزمن، وفي بلدنا أقيل من يملك خطة لتعميم الكهرباء ليحل محله، بكل الإصرار الفاجر، من عملوا على تعميم العتمة.

يستوقفك في مقتل الجندي الإيرلندي ليس التحقيق لجلاء ملابسات الحادثة ومعالجة ذيولها ومحاسبة المسؤولين عنها، فهذا شأن يتعلق بالأجهزة الأمنية والقضائية، بل رواية أحد الصحافيين عنها، إذ أطل في مقابلة متلفزة ليخبر اللبنانيين أن عربة تاهت عن القافلة ودهست مواطناً وأصابته بكسر في قدمه ما دفع شقيقه إلى قتل سائقها.

إذا كانت رواية الصحافي صحيحة فمن الأولى إدراجها في خانة حوادث السير وإخضاعها لأحكامه. لكن منهجه في المعالجة وفي توثيق الخبر واحد، منهج شريعة الغاب بدل الاحتكام إلى الدولة والقانون، وتقاليد الثأر بدل القضاء.

الردّ على حادثة البرنامج التلفزيوني الساخر أمرّ وأدهى. فالأمر لا يتعلق بحرية التعبير في الفن، بل بنقد الأعمال الفنية. سنوات طويلة يقضيها المبدع أو الناقد في تحصيل العلم وتغذية الموهبة وتعميق الثقافة ثم يأتي جاهل فيطيح بهذه السنوات، بشحطة قلم وشتيمة على وسائل التواصل أو ببيان عائلي أو باعتداء سافر على المحطة.

تفاهة الردّ في الحادثتين ناجمة من صدوره عن جهلة بأهمية الدولة، وانتهاكهم ركناً أساسياً يقوم عليه بناء الدولة الحديثة، ألا وهو الكفاءة. نظام التفاهة اعتمد مبدأ الاستزلام والزبائنية، واستعار من الحضارة القديمة «قبضاي الحيّ» ومن التقاليد الميليشيوية «الشّبّيح» ونصّبهما وأشباههما أولياء وقضاة ونقاداً ووزع عيّنات منهما على مختلف المراتب لقيادة البلاد وإدارة شؤونها على حساب الدولة والقانون والدستور.

استناداً إلى مبدأ الكفاءة يقول المثل، «إعط خبزك للخباز حتى لو أكل نصفه». في بلادنا المحكومة بالنهج الميليشيوي قتلوا الخباز وأقفلوا باب الفرن وسلموا رعاع القوم مفاتيح جهنم.