عيسى مخلوف

المستعرب الفرنسي أندريه ميكيل إكليل محبّة ومعرفة

31 كانون الأول 2022

02 : 01

نلتقي بعضَ الأشخاص كأنّنا نتواجد داخل مكتبة حيّة، أو أمام كُتُب مفتوحة على أجمل صفحاتها. هكذا كنتُ أشعر كلّما التقيتُ المستعرب الفرنسي أندريه ميكيل الذي فارقنا هذا الأسبوع.

كان لقاؤنا الأوّل في "المكتبة الوطنيّة الفرنسيّة" يوم كان مديراً لها في ثمانينيّات القرن الماضي. ثمّ، لاحقاً، في "الكوليج دو فرانس"، حول "ألف ليلة وليلة"، برفقة الباحث والأكاديمي والشاعر الجزائري جمال الدين بن شيخ. وكان من حُسن حظّ شهرزاد أن ينقل فِتنتَها إلى اللغة الفرنسية كلّ من أندريه ميكيل وجمال الدين بن شيخ، من خلال ترجمة مُتقَنة صدرت في العام 2005 عن دار "غاليمار"، ضمن سلسلة "لابلياد"، وهي تشكّل محطّة مهمّة في ترجمات "الليالي"، منذ الترجمة الأولى التي أنجزها المستشرق الفرنسي أنطوان غالان ونُشرت مطلع القرن الثامن عشر.

مؤلّفات ميكيل - ومن أبرزها "جغرافيا العالم الإسلامي البشريّة حتّى منتصف القرن الحادي عشر" - مراجع أساسيّة في موضوع الإسلام وحضارته، وفي فهم صعود هذه الحضارة وانهيارها. ولم ينحصر عمل ميكيل في الدراسات العربيّة والإسلاميّة وحسب، بل انفتح أيضاً على النتاجات العربية الحديثة والمعاصرة، وكان هو نفسه مبدعاً له الكثير من الروايات والشعر والقصص القصيرة والخواطر.

قراءته للموروث الأدبي العربي هي إحدى القراءات المميّزة والمبتكرة، شرقاً وغرباً، وكذلك التفاته إلى الشعر، دراسةً وترجمة، خصوصاً تلك التي خصّ بها مجنون ليلى. شعر الغزل، الذي يسمّيه ميكيل "شعر الحبّ عند العرب"، والذي طالعنا في أشعار قيس بن الملوّح وغيره من الشعراء، يتّصف، بالنسبة إليه، بإيجاده المعادلة الآتية: "الحبّ المستحيل هو الوحيد الكامل، والحبّ الكامل هو الوحيد المستحيل". أتذكّر الآن تلك الطُّرفة التي سمعتها منه. قال إنّ ليلى بحثت سرّاً، ذات يوم، عن العاشق المجنون التائه في البراري، ووجدته هائماً على وجهه، فاقتربت منه وهزّت كتفه وهي تقول: "أنا هنا. أنا الآن بقربك". لكنّه دفعها عنه بقوّة، وهو يردّد من دون أن يلتفت إليها: "اتركيني وشأني، اتركيني مع ليلى"!

عندما علمتُ بوفاة أندريه ميكيل، فعلتُ كما أفعل في العادة مع الذين تركوا أثراً في نفسي ورحلوا. توجّهتُ إلى كتبه التي على رفوف مكتبتي، وهي الجزء الذي لا يموت مع موت المؤلّف. حملتُ بين يديّ كتابه "الابن المقطوع". وكان هذا الكتاب هو مدخلي إلى وجهه الإنسانيّ، إذ يروي فيه، يوماً بيوم، على مدى عام كامل، وبلغة عميقة الأثر، مشاعره حيال ما كان يعاني منه ابنه المصاب بالسرطان، وهو في الرابعة عشرة من عمره. إنها شهادة إنسانيّة رهيبة، ونشيد فاجع في وصف الموت البطيء والمُعَذِّب.

مَن يقترب من كتابات أندريه ميكيل، يقترب من شخصه أيضاً. قلّة من الكتّاب تجمع بين سلوكها اليومي وما تكتب، وتسعى إلى المصالحة مع النفس والآخر، لكنّ ميكيل كان ينتمي إلى هذه القلّة. هو الجامع بين الضفاف المتباعدة، الموسوعيّ المتنوِّر والإنسان المتواضع في آن واحد. أليس هو القائل: "أريد فقط أن أكون نفسي، أن أكون صوتاً بين الأصوات، بما في ذلك تلك الأصوات التي لا نسمعها". لكنّه الصوت الذي سيظلّ مسموعاً حتّى بعد رحيله، لا سيّما في قراءته النافذة لأحد الجوانب المتجلّية في الموروث العربيّ، من "ألف ليلة وليلة" إلى قيس بن الملوّح.

ولا ننسى موقفه من العالمَين العربي والإسلامي، وهو موقف المتعاطف الموضوعي، موقف المحبّ في زمن الحقد المنتصر، موقف الداعي إلى تعزيز الفهم والحوار والقواسم المشتركة، لا موقف المستيقظة في نفوسهم غرائز العنف، كما الحال مع الكاتب الفرنسي ميشيل ويلبيك الذي يمعن في عنصريته والتحريض على الكراهية واللعب بجروح لا تندمل.

في آخر لقاء جمعني به، بحضور الناشرة إيزابيل بوديس، كان أندريه ميكيل مُبهِِج الحضور كعادته، حاضِرَ الذّهن والذاكرة، "متنبّهاً إلى كلّ ثانية تمضي"، كما أسَرَّ إلينا. كأنَّ كلّ لحظة في سنواته الأخيرة كانت عمراً كاملاً، أو بداية حياة جديدة، لكنّها الحياة التي لا تُحسَب بعدد الأيام والسنين.


MISS 3