عيسى مخلوف

وقفة من باريس

العالم العربي أوراق مبعثرة في كتاب

25 كانون الثاني 2020

11 : 33

مطلع الشهر المقبل، يحتفل "معهد العالم العربي" بإطلاق سلسلة كتب جديدة بالاتفاق مع دار "سوي" الباريسيّة تحت عنوان "أرابوراميا"، بمناسبة صدور الكتاب الأول منها. تتمحور السلسلة حول العالم العربي، ماضياً وحاضراً، وحول تاريخه المتعدّد وواقعه الآن، وكذلك حول مجالات الإبداع المختلفة فيه. ينطلق الكتاب الأول من تساؤلات صادمة (هل لا يزال العالم العربي موجوداً؟ هل وُجدَ فعلاً؟ هل لا يزال لكلمة أمّة معنى، وما هو؟).

ولقد ساهم في صياغته عدد من الكتّاب والفنّانين والمفكّرين والمؤرّخين والمثقّفين العرب والأجانب.في هذا الكتاب، كانت لي كلمة حول مرحلة النهضة والأسئلة التي طرحها أعلامها ولا تزال قائمة. كانت شهادة أدبيّة ثقافيّة ولم تكن تأريخاً وإن بدأت بلمحة تاريخيّة. منذ القرن السادس عشر، كانت الكنيسة الكاثوليكيّة قد أقامت أولى علاقاتها النظاميّة بالطوائف المسيحيّة الشرقيّة.


والإرساليّات الأجنبيّة أنشأت شبكة من المدارس الكاثوليكيّة في أمكنة تقطنها طوائف كاثوليكيّة، خصوصاً في لبنان ومدينة حلب، فكان أن ظهر فريق من الكتّاب والمثقّفين الذين وعوا عوالم أوروبا الجديدة وتأثّروا ببعض نواحي الفكر والأدب الأوروبييَّن. الانفتاح على لغات جديدة وتعميق معرفتهم باللغة العربية دفعاهم، في القرن الثامن عشر، إلى ترجمة بعض مؤلّفات اللاهوت الكاثوليكي الغربي أو اقتباسها، ومنها "الخلاصة اللاهوتيّة" لتوما الأكويني.شكّل عصر النهضة، بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين، محطّة مهمّة في الثقافة العربية المعاصرة.


كتّاب عرب من مختلف الطوائف كان لهم دور فيه، ومن بينهم بالأخصّ مسيحيّون عرب، داخل العالم العربي وفي المهجر. لكن لا بدّ من التأكيد، هنا، أنّ روّاد النهضة من المسيحيين جزء لا يتجزّأ من اللغة والثقافة العربيّتَين.

ولذلك، ليس بالإمكان التعريف بهم من خلال طائفتهم، ولا يمكن حصرهم فيها أو ضمن أقلّية محدّدة، حتى لو ولدوا ونشأوا في بيئتها، وحتى لو استوحى بعضهم النصّ الإنجيلي. وهذا ما ينطبق على شعراء من طوائف أخرى، لكنهم أيضاً عابرون للأديان، ومنهم الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، خصوصاً في قصيدته "المسيح بعد الصلب". في هذه القصيدة، اتّخذ الشاعر من شخص المسيح رمزاً للألم والحب والموت والبعث، فتماهى معه وتحدّث بلسانه.

مع ترجمات التوراة في القرن التاسع عشر، تجاوزت اللغة العربية وظيفتها الروحية والتعليمية الطقسيَّة، فهذه الترجمات أطلقت تقليداً أدبياً جديداً يأتي من مكان آخر غير الكلاسيكية العربية المتوارثة، لا سيّما أنّ الذين تعهّدوا تنقيحها وإتقان صيغتها هم من أعلام الناثرين في القرن التاسع عشر والمعروفين بإتقانهم لغات وانفتاحهم على الثقافات: بطرس البستاني، ناصيف اليازجي، ابراهيم اليازجي، الشيخ يوسف الأسير وأحمد فارس الشدياق. لقد اعتمد هؤلاء على لغة عربية صافية وطيّعة، فكّت النثر من جموده بعدما ابتعدت عن التأنّق المسرف. من هذه اللغة بالذات، انطلقت البوادر الأولى للأدب العربي الحديث التي نستشفّها في تجارب بعض الأدباء، ومنهم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومي زيادة. وكان جبران، في نفحته الأدبيّة ونثره الشعري، أكثر المتأثّرين بترجمات التوراة إلى اللغة العربية تأثّرَه بالأدب الرومنطيقي الغربي. وهذا ما يفسّر أيضاً اقترابه من وليم بلايك ونيتشه.

من ترجمات الكتاب المقدّس والترجمات الأدبية، خصوصاً من اللغتين الفرنسية والإنكليزية، بدأ مسار جديد توسَّع معه الأفق الثقافي فنشأت فنون أدبية كالمسرح والقصّة وقصيدة النثر، وانفتحت اللغة العربية على اللغات الأخرى والثقافات الأخرى، ممّا سمح بالتعرّف إلى التيارات الفكرية الحديثة التي سادت في أوروبا وترسّخت في مرحلة ما بين الحربين العالميتين.

إلى ذلك، تعرّض أعلام النهضة للسلطة المركزيّة في الدولة العثمانيّة وعبّروا عن توقهم إلى التأسيس لثقافة جديدة ورفضهم البنى السياسية والفكرية التي كانت سائدة آنذاك والتصدي للاستبداد في وجوهه المختلفة ومناهضتهم الأمّية والجهل، فناقشوا مسائل جوهرية لا تزال مطروحة حتى أيّامنا هذه، ومنها، بالإضافة إلى اللغة، الدين والمرأة.

وكم يبدو مهمّاً اليوم الالتفات إلى تجربتهم التي لا تزال حيّة وتشكّل في بعض أفكارها وتطلّعاتها ردّاً على عصر التطرّف والظلامية في المنطقة العربية، وعلى استمرار الاستبداد والقمع، وارتفاع نسبة الأمّيّة والبطالة، والتعصّب الديني، والنظرة المتخلّفة إلى المرأة، وتقلّص فضاء الحرّية والحروب المتواصلة. ويأتي هذا التراجع العامّ امتداداً لظروف داخلية وخارجية، وانعكاساً للحظة انهيار تاريخي لا سابق لها.

من الذين شاركوا في الكتاب الأوّل من سلسلة "أرابوراما" الصادر عن دار "سوي": كريستوف عيّاد، برتران بادي، جاكلين شابّي، ليلى دخلي، كمال داود، جمانة حداد، هنري لورانس، فاروق مردم بك، الياس صنبر، تاساديت ياسين، مازن كرباج، زينة أبي راشد...


MISS 3