جاد حداد

Land... رحلة عاطفية صامتة

9 كانون الثاني 2023

02 : 00

تخوض الممثلة روبين رايت تجربتها الإخراجية الأولى في فيلم Land (الأرض) الذي يعرض قصة درامية متماسكة عن أنواع مختلفة من العزلة. تكون "إيدي" (روبين رايت) معزولة عاطفياً بسبب مأساة مريعة وينتابها حزن مستمر يجعلها تميل إلى الانتحار. هي تحاول على ما يبدو التعبير عن وحدتها الداخلية عبر عزل نفسها من الخارج، فتقصد كوخاً بعيداً وتحاول إعالة نفسها من محاصيل الأرض. يبدو هذا الفيلم أشبه بدراسة عاطفية لشخصيتَين عميقتَين تجدان معنى حياتهما بفضل الطرف الآخر. يتوصل الفيلم إلى استنتاج مفاده أن العزلة ليست الحل، بل إن الترابط بين الناس هو العامل الأهم. إنها قصة ذكية ومؤثرة، مع أن نهايتها تبدو مستعجلة بعض الشيء وقد تميل إلى التلاعب بالمشاهدين.

تقدّم رايت أداءً مدهشاً في أول نصف ساعة من الأحداث، إذ يخلو هذا القسم من الحوارات. تتجه "إيدي" في أول مشهد طويل إلى كوخ بعيد في الجبال. وعندما تطلب من الرجل الذي أعطاها العنوان أن يحضر لأخذ السيارة المستأجرة حين يستطيع، يقول لها إنها قد تحتاج إلى سيارة في ذلك المكان، لكنها لا تهتم بسلامتها.

لا يكشف الكاتبان جيسي تشاثام وإيرين ديغنام التفاصيل الكامنة وراء رغبة "إيدي" في اللجوء إلى مكانٍ يوحي بأن الطبيعة الأم بَنَته لقتلها، بل يكتفيان بعرض لقطات قصيرة من الماضي حيث تظهر شقيقتها "إيما" (كيم ديكينز) وهي تتوسل "إيدي" كي لا تنتحر. ثمة لقطات أيضاً لرجلٍ وفتى، وهما جزء من عائلة "إيدي" المفقودة. تتمحور القصة في جوهرها حول حزنٍ لا يمكن تصوره: إنه نوع الألم الذي يعيد تشكيل الحياة. لنتخيل أن نعيش تجربة مريعة لدرجة أن يبدو لنا العالم المحيط بنا مختلفاً بالكامل. في هذه الحالة، ما الذي يمنع بطلة القصة من تغيير محيطها والانتقال من مدينة شيكاغو إلى جبال "روكي"؟ تجسّد رايت دور "إيدي" بطريقة ذكية وتُعبّر عن ألمها الدائم خلال الفصل الأول من الفيلم. إنها قصة قاتمة ولاذعة لدرجة أن نشعر بحزن "إيدي" المستمر في مرحلة معينة.

سرعان ما تتغير أجواء القصة مع ظهور صياد اسمه "ميغيل" (ديميان بيشير) وممرضة اسمها "ألاوا" (سارة دون بليدج). هما لا ينقذان حياة "إيدي" فحسب، بل يصبح "ميغيل" حليفاً غير متوقع أو حتى مرشداً لها مع مرور الوقت. هو يعدها بعدم إخبارها شيئاً عن العالم الخارجي حفاظاً على عزلتها ولا يتفوه بكلام كثير، بل يُركّز على منحها الأدوات اللازمة لضمان صمودها قبل الاختفاء من حياتها. هو يتعامل مع مشاعر حزينة وصادمة خاصة به ويحملها معه خلال رحلة الصيد.

تقيم المخرجة رايت والمصور السينمائي بوبي بوكوفسكي توازناً مثالياً بين اللقطات العاطفية التي تعكس خلفية مدهشة للقصة وتحليلات عميقة تكشف حجم الصدمة في حياة الشخصيات. إنه فيلم جميل وهو يحافظ على جوانبه المشوّقة التي تنذر بمخاطر دائمة. في أحد المشاهد، في مرحلة متقدمة من الأحداث، تقف "إيدي" بالقرب من حافة منحدر وتبدو قريبة جداً من رمي نفسها. يتّسم العمل بتوازن دقيق بين جمال هذا العالم والفكرة القائلة إن هذا الجمال يخفي جوانب قاتلة كثيرة، بدءاً من الدببة التي تبحث عن قوتها وصولاً إلى المنحدرات والعواصف الثلجية الشتوية الوحشية. تستحق آن ماكابي وميكيل نيلسن الإشادة على أسلوب المونتاج المميز وبراعتهما في إقامة هذا التوازن.

لكن تتعلق أهم نقطة قوة في العمل بأداء بطلَي القصة. تنجح رايت في تقديم جميع جوانب شخصيتها، لا سيما طريقة كبتها لحزنها، وهي تستعمل ذلك الألم الفارغ للنهوض والبقاء على قيد الحياة. يضاهيها بيشير من حيث القدرات التمثيلية، لكنه يقدم أداءً مختلفاً جداً ولا يقلّ عنها قوة. لا تتفوه هاتان الشخصيتان بكلام كثير، وتبقى الحوارات على الأرجح أضعف جانب من الفيلم لأنها تتخذ منحىً غير واقعي في لحظات كثيرة، لكن يحصل بيشير ورايت بهذه الطريقة على المساحة اللازمة لتقديم أداء تعبيري متقن. الأهم من ذلك هو أنهما يجسّدان على أكمل وجه حاجة كل طرف إلى الآخر من دون اللجوء إلى أداء ميلودرامي مبالغ فيه. ثمة كيمياء قوية بينهما حين يجتمعان في مكان واحد بطريقة غير متوقعة ويقدّمان شخصيتَين مقنعتَين وثلاثية الأبعاد.

لكن يبدو جزء من المشاهد الأخيرة في الفيلم ناقصاً، وتبقى لحظات الصمت أكثر فاعلية من الحوارات. قد يكون المشهد الذي يقتصر على رجلٍ جالس في الشرفة وهو يغمض عينيه فيما تلامس الشمس وجهه أقوى من مناجاة فردية مبالغ فيها.

أخيراً، تصبح أغنية Everybody Wants to Rule the World (الجميع يريد أن يحكم العالم) لفرقة Tears for Fears عنصراً متكرراً في الفيلم، إذ يغنّيها "ميغيل" في مناسبات عدة، ولا مفر من أن نشعر بتطابق كلماتها مع مسار أحداث الفيلم، فهي تشمل عبارات مثل "أَدِرْ ظهرك للطبيعة الأم" و"إنه تصميمي الخاص/إنه ندمي أنا". تُعبّر هذه الأفكار صراحةً عن قصة "إيدي". لكن تشمل اللازمة أيضاً سطراً مهماً يستحق التنويه للتعبير عن مشاعر الاكتئاب والحزن التي تبدو لامتناهية أحياناً: "لا شيء يدوم إلى الأبد".


MISS 3