مجيد مطر

من يبرّر نفسه يتّهمها

9 كانون الثاني 2023

02 : 00

لا امكانية للإتخاذ من «مكافحة الفساد» في لبنان قضية جدية، من دون بناء نواة صلبة محايدة وموضوعية، تُخرج موضوع الفساد من آلة الدعاية «العونية» التي جعلت منه دائرة مغلقة وحصرية، وماركة مسجلة لتيارهم، الذي شغل أهم الوزارات، كالاتصالات والطاقة، وقد فاحت منهما روائح الهدر، من دون أن ننسى العقوبات على رئيس «التيار» جبران باسيل بخلفية تهم بالفساد موثقة لدى الاميركيين. فهل لفاقد الشيء أن يعطيه؟

ولمعرفة هزال ما يقوم به «العونيون» من عراضات، مستغلين مواقع قضائية وغير قضائية، مقربة منهم، يكفي أن نستحضر تجربة وزير الدولة السابق لشؤون مكافحة الفساد نقولا تويني، المحسوب على رئيس الجمهورية السابق ميشال عون.

فهذا الوزير قد انتهى به الأمر إلى مواجهة دعوى قضائية قُدِمَت من مجموعةِ ناشطين اتهموه بتبديد أموال عامة وإساءة استعمال السلطة والاخلال بالواجبات الوظيفية، باعتبار أنّ الوزير لم يستطع أن يضع ملفاً واحداً من ملفات الفساد، على غزارتها، على طاولة التحقيق والمحاسبة.

وما إن أُعلِن عن قدوم وفد أوروبي للتحقيق في قضايا فساد مالي ومصرفي، وقبل معرفة مضمون زيارتهم، حتى انبرى «التيار العوني» إلى اعلان «نصر إلهي» جديد ميدانه هذه المرة المصرف المركزي وحاكمه. فكان الأجدى بالوفد أن يأتي بعيداً عن الإعلان تجنباً لاستغلال زيارته من قبل هذا الفريق أو ذاك، وصيانة في المقابل، لموجب التحفظ.

وبمعزل عن الموقف القانوني من زيارة الوفد الأوروبي، إن لناحية التحقيق مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أو القيام ببناء تصور عن واقع النظام المصرفي والنقدي في لبنان، الذي أصبح متفلتاً، الأمر الذي قد يسهّل عمليات مالية مخالفة للقوانين الموضوعة لمكافحة تبييض الأموال بعدما سيطر نظام «الكاش» الذي تصعب مراقبته والسيطرة عليه.

فكما هو معروف إنّ للنظام المصرفي علاقة مباشرة في تطبيق قوانين مكافحة تبييض الأموال الدولية، عبر مراقبة حركة تنقلات الأموال والتحويلات من الخارج ومعرفة وجهتها، والتعاون مع المجتمع الدولي لمحاربة الإرهاب والجرائم المالية من خلال التشريعات المقرة في هذا الشأن (قانون رقم 2001/318). ومن المنطقي أن يكون هدف زيارة هذا الوفد اكتشاف قدرة النظام المصرفي على القيام بهذه المهمة، ومهمات أخرى.

كان يمكن للمرء أن يصدّق ادعاء «التيار العوني» بنظافة الكف، في ما لو لم يكونوا يوماً جزءاً من السلطة قبل اتفاق «الطائف» وبعده، وأن موقعهم في النظام يفوق الكثير من القوى. فقد كان مؤسسهم العماد ميشال عون قائداً للجيش، ثم رئيساً لحكومة عسكرية، أدارت عدداً من الوزارات أهمها وزارة المالية، وقد اتهم يومها بأنّه قد فتح حسابات رقمية له في الخارج وليس اسمية، بحيث يصعب تتبع اسم صاحبها.

أمّا بعد عودته من المنفى فقد دخل جنة السلطة، رافضاً أن تتشكل الحكومة اذا لم يتم توزير صهره الخاسر في الانتخابات النيابية، وقد بلغ حضور «التيار العوني» الوزاري ذروته في حكومة نجيب ميقاتي التي أطلق عليها حكومة «القمصان السود» في العام 2011، ومنذ ذلك الوقت دخل لبنان في النفق الاقتصادي المظلم، فهربت الاستثمارات، وتراجع النمو إلى حدود صفرية، وأُعلن رسمياً لبنان دولة منحازة لمحور بعينه. وقد شكل حينها ميشال عون «الغطاء المسيحي» لكل تلك السياسات التي بدأت بخطأ فتحولت الى خطيئة.

إنّ تياراً سياسياً يملك كل هذا السجل من الأخطاء والخطايا، كيف يسمح لنفسه بأن يصوّر رئيسه وكأنّه المنقذ وأنّه خلاصة الطهرانية السياسية، لدرجة خلنا معها بأنّ الراحل ريمون اده قد بُعِثَ من جديد! لقد قام بتسخير الدولة على قدم وساق وبالتواطؤ مع من يتهمهم بالفساد، وبلغ التماهي معهم حداً لا يمكن التغاضي عنه.

في هذا المقام، وليس دفاعاً عن رياض سلامة بل عن عقولنا التي يتم الاستخفاف بها، وكأنّ الشعب اللبناني مضطر أن يصدق الرواية العونية عن محاربة الفساد من دون تبصّر وبتسليم تام. رياض سلامة مسؤول أولاً، بحكم منصبه، وهو تحت المساءلة والمحاسبة من دون منّة من أحد. إنما أن يتم تقديمه كبش محرقة، كونه الطرف الأضعف ويسهل النيل منه، فهذا يصيب حاجتنا لمكافحة الفساد في مقتل.

إنّ رياض سلامة قياساً بالوزراء يبدو الأقل مسؤولية، فقانون المحاسبة العمومية أناط بالوزراء اقتراح المسودات بنفقات وزاراتهم، كما أناط بهم عقد النفقات بالوزير المختص، وبعد عقد النفقة وفق الأصول ترسل إلى المالية فيتم التدقيق بها من ناحية اكتمال مستنداتها، لا ملاءمتها، وبعد ذلك ترسل إلى المصرف المركزي عبر مديرية الخزينة، ليحولها المصرف إلى مستحقيها وفق آلية معتمدة من خلال نظام التحويل «السويفت». اذا إن الوزير في وزارته هو المسؤول الأول عن إدارة المال العام. فإذا لا يتعامل من يدعي محاربة الفساد وفق هذه المعطيات ويدعم فتح تحقيق مالي بكل الوزارات، يمكن أن يمتد الى تاريخ تأسيس الكيان لا مانع، يكون كمن يغطّي على الفساد وجذوره، ويساهم في تضليل الرأي العام، فضلاً عن الوفود التي تأتي من الخارج. يقول المبدأ السياسي: إنّ من يبرر نفسه يتهمها. لعمري، هذا ينطبق حرفياً على مدّعي محاربة الفساد.

(*) كاتب لبناني


MISS 3