هناك جرائم ارتُكبت تقضي برفض أي خطة تتجاوز المساءلة

الكك: قضية المحاسبة أكبر من قضية استرداد الودائع

02 : 00

يريدون القفز فوق القانون

تتوقف الدكتورة سابين الكك، الجامعية والباحثة المتمرسة في القوانين المالية والمصرفية، أمام ما حصل في الأيام الأخيرة بتوقيف وليم نون ثم اطلاق سراحه لتقول: «إن الطبقة الحاكمة تدفع الناس للخروج على دولة القانون. فلو أخذ الناس حقهم بالطرق الطبيعية لما كانوا لجأوا الى أساليب عنيفة معينة». وتضيف: «من دافع عن وليم نون، ويجب الدفاع عنه، لم نره يدافع عن المودعين اللاجئين الى اساليبهم الخاصة أيضاً لأخذ حقوقهم من المصارف. فبين النواب الذين دافعوا عن وليم من يصف المودعين المقتحمين للبنوك بأنهم يشوهون صورة المصارف، ويندد بأساليبهم». في حوار مع «نداء الوطن» تتطرق الدكتورة الكك الى جمعيات المودعين لتؤكد أن بينها من هو مخترق من سياسيين ونواب ومن جمعية المصارف. إذ اصبح عنوان حماية المودعين مثل عنوان مكافحة الفساد، اي عنوان بلا مضمون» . وفي ما يلي نص الحوار:


د. سابين الكك





ما رأيك بالخطة الحكومية المطروحة لتوزيع الخسائر؟

الموضوع ليس خطة وحسب ونتجاهل أن هناك جريمة ارتكبت. علينا أولاً البدء بتطبيق مبادئ المحاسبة والمساءلة. المسألة تتجاوز اعادة الودائع لاصحابها كلياً أو جزئياً. هناك جريمة، وهناك حق عام للناس. فقد انهار الاقتصاد وتضرر غير المودعين أيضاً، فالأزمة المصرفية عطلت البلد والأعمال وأفقرت الناس. لذا فان المحاسبة والمساءلة أكبر من قضية استرداد الودائع.

أنا أرفض بالمطلق الحديث عن العدالة السياسية. ما من أحد في لبنان يستطيع القول انه يتحدث باسم المودعين كل المودعين. انها حقوق شخصية. حتى لو بقي مودع واحد مظلوم فهناك قضية قائمة، ولا يجوز لأي كان ايقافه عن المطالبة بحقه .

لكن لا بد من الخروج من عنق الزجاجة بمشروع ما... أليس كذلك؟

كل المشاريع والخطط التي تقدم هي بهدف خلق توليفة قانونية تناسب الظرف، وهذا ينسف كل المعايير القانونية الصحيحة أو استباقية القاعدة القانونية. ان اعادة صياغة مفهوم تلك القاعدة في قضية الأزمة المصرفية وعلى قياس الأزمة جريمة دستورية وتشريعية كبيرة جداً.

فالشق المتعلق بالمصارف وعلاقتها بالدولة ومصرف لبنان لا علاقة له بالشق المتعلق بعلاقة المصارف مع المودعين. ما من تشريع يمكنه ان يدخل ليعبث في هذا الفصل.

هل لدينا ما يكفي من قوانين نلجأ اليها لإحقاق حق المودع بلا التباس؟

لا تنقصنا قوانين لحماية المودعين، تلك الحقوق محمية قانوناً وإلا لما اودع الناس أموالهم في المصارف. فكل حديث عن قانون جديد لحماية المودعين مرفوض لأنه يعبر عن حركة التفافية على الموجود الكافي من القوانين الحامية للمودع.

اذا كان الدستور والقوانين تحمي المودعين، فلماذ اذاً هناك مؤسسة لضمان الودائع بحد معين فقط؟

مؤسسة ضمان الودائع عبارة عن شركة تأمين. تدفع ما هو مؤمن بنسبة معينة، ويبقى الفرق الذي يجب تحمل مسؤوليته. الحديث عن حد ادنى من المبالغ المحمية (حتى 100 الف دولار على سبيل المثال) هو خطأ شائع للتعمية على الحقيقة، ولحماية أموال المصارف وموجوداتها وأموال أعضاء مجالس اداراتها وممتلكاتهم في الداخل والخارج... فالتعويض المطلوب لا يقتصر على الحد الادنى المحكى عنه .

هل يكفي اللجوء إلى القانون 67/2؟

قانون 67/2 هو واحد من الحلول، وهو يعالج مسألة الإفلاس ليس فقط من زاوية دائن ومدين، بل يتجاوز ذلك الى حقوق المودعين. لا يمكن وضع المودع في خانة الدائن العادي.

ما رأيك بمقولة أن الدولة مسؤولة أولاً؟

لا أضع علاقة المصارف مع المودعين تحت سقف الدولة. قبل كل ذلك علينا معرفة الأرقام الدقيقة للديون. فما تبقى من سندات يوروبوندز، اي الدين المتوجب دفعه من الدولة للمصارف، هو حاليا اقل من 4 مليارات دولار. أما بالنسبة لشهادات الايداع في مصرف لبنان، فقد أكد الأخير في بيان سابق ان هذا الحساب تجري تصفيته بشكل او بآخر. لا يمكن لأحد ان يدعي اليوم حقيقة الأرقام بين مصرف لبنان والمصارف. سبق للبنك الدولي في احد تقاريره السابقة أن أشار الى فكفكة للهندسات المالية وشهادات الايداع بين المصارف ومصرف لبنان، وذلك تحت عنوان reengineering. على سبيل المثال لا الحصر: كل قرض تم تسديده، حصلت مقابله محاسبة او مقاصة بشأنه بين مصرف لبنان والمصارف. وهذا ينطبق على كل وديعة دولار تدفع بغير سعرها الحقيقي وبالليرة. وهذا ما يفسر أن مصرفاً ما يقول ان «الكوتا» الخاصة به على المنصة قد استنفدت. لذا، عندما يأتي أحدهم لتسديد قرض يقول له المصرف انه سيحصل لذلك على موافقة مصرف لبنان، وفي مقابل تلك الموافقة هناك شيء يحصل بين الطرفين (البنك المعني والبنك المركزي)... ما أقصد قوله ان تصفية حسابات تجري على قدم وساق.

قبل الحديث عن مسؤولية الدولة من عدمها، يفترض التدقيق في كل الأرقام والتسويات التي حصلت وتحصل بين البنوك والبنك المركزي. وكان صندوق النقد طلب التدقيق في حسابات مصرف لبنان و14 مصرفاً. فأين ذلك التدقيق وأين التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان؟ انهم لا يرون كأولوية من الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الا الكابيتال كونترول وتوزيع الخسائر مع القفز على كل ما عداهما!

تسري في البلاد سرديات كثيرة عن الأزمة وأسبابها، هل من سبيل للحصول على سردية واحدة متفق عليها؟

لا ينقص لبنان اصحاب خبرات، ولا أناس مستقلون تتشكل منهم لجنة تحقيق وطنية ضمن شروط صارمة. انا اجزم بأنه يمكننا ايجاد ألف متطوع لعمل محاسبة وتدقيق وقانون وحوكمة. على أن تقدم تلك اللجنة تقارير علنا أمام الرأي العام والمجلس النيابي، وهذا ما حصل في اليونان إبان ازمة ذلك البلد. لجنة كهذه ستلقى دعماً لا محالة من مؤسسات خارجية والمجتمع المدني الذي لا يتوانى الآن عن دعم اصحاب المصداقية المستقلين.

أجل، السرديات مختلفة ومتناقضة احياناً، وهناك سرديات مشبوهة. على سبيل المثال، اذا سمعنا سردية مصرفيين واقتصاديين وماليين فنجد انهم يرون الأمور انطلاقاً من خلفيتهم المهنية والثقافية والاكاديمية الخاصة. وهنا نواجه مشكلة معقدة لأن هناك من يعتقد ان الاقتصاد والمال والمصارف والموازنة... خارج القانون ، وفقط في صلب السياسة والمصالح والأرباح. والسبب هو ان منطق السوق حكم لبنان طويلاً، أعني السوق والتداول الذي أساسه ممارسات مصرف لبنان وحاكمه رياض سلامة. هذا ما ساد خلال 30 سنة على الاقل: منطق السوق وجني الارباح السريعة، ومنطق مصرف لبنان الآن مستمر في هذا المنوال. فمنصة صيرفة، مثلاً، هي صورة مصغرة عن كل ما سبق وحصل من ممارسات: تحقيق ارباح، اطفاء خسائر هنا وهناك ، تلاعب بالحسابات وتركيب طرابيش على الرؤوس. ليس هذا منطق دولة القانون والمؤسسات والاقتصاد الصحيح .

منطق السوق يدفع البعض الى القول الآن ان البلد ماشي وتدخله مليارات والمطاعم والاسواق تشهد على ذلك، فما رأيك؟

انا اقول ان السوق ماشي وليس الاقتصاد، والفرق كبير جداً. السوق هو حركة البيع والشراء ولو بالحد الادنى للعيش. وهذه الاموال المحكى عنها لا تدخل في الاقتصاد ونموه وآلياته الصحيحة.

هل ما يوضع من خطط سيمنع تكرار الأزمة؟

خطط كثيرة من هنا وهناك، أسأل واضعيها: ما الذي تريدونه فعلاً؟ وأقول لهم انكم تعملون بنفس المنطق الذي اوصلنا الى ما وصلنا اليه . اي خطة توضع من خارج المبادئ القانونية الاساسية ستعمل على اعادتنا الى نفس المربع حتى لو ادعت انها تحل المشكلة موقتا اليوم. ما يعمل عليه البعض هو طم الازمة والقفز فوقها، ما قد يعني اننا قد نقع مجدداً بأزمة ممثالة او ربما أخطر.

لكن لا بد من حل لأزمة الودائع... فكيف ذلك؟

دعني افترض ان خطة من تلك التي تدرس الآن استطاعت رد ودائع حتى مليون دولار وليس 100 الف فقط، هل نكون انهينا الأزمة فتعود المصارف نفسها الى ممارسة أعمالها كأن شيئاً لم يكن بذات الممارسات والعقلية الي سبق وحكمت عمل تلك المصارف؟؟ هل يكفي ان تغير البنوك اسماءها ونأتي بحاكم مثل رياض سلامة؟ هذا عبث! لكن ما سيحصل على الأرجح هو هذا السيناريو للأسف!!

اذاً لا حل جذرياً إلا بالمحاسبة... فهل هذا ممكن؟

الخطة الوحيدة التي يجب انتظارها هي تلك التي تبدأ في التدقيق في حسابات المصارف ومصرف لبنان، بغض النظرعن التدقيق الذي يجب أن يحصل في ميزانيات الدولة ووزاراتها واداراتها المختلفة بحثاً عن الفساد ونهب المال العام. نبدأ أولاً بالقطاع المالي، وما قد نكتشفه فيه يوصلنا الى المال العام، لأن المصارف هي المكان التي تمر او تستقر فيه الأموال المشبوهة.

ما رأيك بالقول أن إفلاس المصارف لا يعيد للمودعين أموالهم؟

لا أقول دمروا البنوك واشنقوا أصحابها في الساحات! جل ما نطلبه هو أخذ هؤلاء الى المحاسبة الصحيحة والشفافة والموضوعية تحت سقف القانون بكل استقلالية ومعايير واضحة. بعد ذلك يمكن اجراء تسوية لمن يبحث عن تسوية. لكن ليس قبل اعلان حدود مسؤولية المصارف بوضوح تام. كثير من البنوك العالمية الكبيرة او الأصغر حجماً مرت بدعاوى وفضائح مالية وبورصوية، تجري التحقيقات معها وصولاً الى تحميل المسؤوليات، ثم تحصل تسويات. تبقى تلك البنوك قائمة بعد أن تمر في المحاسبة بغرامات وتغيير مجالس ادارات وادارات تنفيذية وغيرها من العقوبات... ما يحصل في لبنان هو خلاف ذلك تماماً، والأنكى أن أصابع المصارف واضحة في جزء من الخطط التي توضع للحلول المزعومة. انهم يضعون ما يناسبهم.

لماذا غاب التحّرك الجماعي للمودعين؟

تعلم المصارف انها استطاعت السيطرة على ردة فعل المودعين بطريقة أو بأخرى. وما يبحث اليوم على صعيد الكابيتال كونترول هو عبارة عن تكريس لإدارة الأزمة بالطريقة التي شهدناها منذ 3 سنوات الى اليوم. شرعة ادارة الازمة بما يناسب هذه الطبقة السياسية والمالية. علماً بأن ما حصل بعد 17 تشرين 2019 نتائجه اسوأ من نتائج الأزمة نفسها. هذا ما يريدون شرعنته، وبذلك يضعون الحد الفاصل التشريعي بين الاموال الطازجة (الفريش) والأموال القديمة... من دون شطب رساميل ولا اجراء التدقيق اللازم ولا تسديد الخسائر او رد الودائع. والسؤال لمن يقول ان اموال المصارف الآن لا تكفي لسداد 80 مليار ودائع هو: هل وجدنا ملياراً او 10 او 15 ملياراً؟؟ دعونا ندقق أولاً!


MISS 3