تعتمد الحكومات نظام سعر الصرف الثابت لجعل معدّل تبادل العملات بينها وبين الدول الأخرى أكثر استقراراً، ولتحسين التعاملات التجاريّة. وبالحقيقة يقدّم هذا النظام الكثير من الفوائد للبلدان التي تتبعه ومنها:
1 - توسيع العلاقات التجاريّة بين الدول: يساهم سعر الصرف الثابت في توسيع التجارة وزيادة الأرباح، خاصّة ان تكون العملة المحليّة للبلد مستقرّة نسبياً وبعيدة عن أيّة تغييرات في المستقبل القريب، حيث يتمكّن التجار والشركات المستثمرة من وضع خطّة مستقبليّة سهلة، بسبب زوال مخاطر تقلّبات العملة التي تؤثّر بشكل كبير على أيّ مشروع، كما يفتح ذلك الباب أمام الأعمال المحليّة الأخرى لتوسيع نشاطها خارج النطاق المحلّي لتشمل الدول الأخرى التي تمتلك سعر صرف ثابتاً بالمقارنة مع العملة المحليّة.
وتظهر فوائد هذا النظام بشكل أكبر في العلاقات التجاريّة بين البلدان ذات تكاليف الإنتاج المنخفضة، وبين البلدان ذات الاقتصادات الأقوى عندما تقوم مصانع البلدان الأولى بنقل أرباحها من البلدان الثانية، وتكون كميّة هذه الأرباح التي يمكن تحقيقها أكبر من خلال ابقاء سعر الصرف بين تلك العملات منخفضاً، فتزداد القدرة التنافسيّة للمنتجات المحليّة في الخارج.
2 - حماية العملة والاقتصاد المحلّي: يساعد سعر الصرف الثابت أيضاً في رفع مستوى المعيشة وزيادة النموّ الاقتصادي بشكل عام، كما يتم اتباع هذا النظام من أجل حماية الاقتصاد المحلّي، حيث أنّ موجات تقلّب أسعار الصرف دائماً ما كانت تؤثّر على الاقتصاد ونموّه، وبالتالي فإنّ قيام الحكومات بتحديد سعر صرف ثابت لعملتها مقارنة بعملات الدول الأخرى التي تتعامل معها، أو تستخدمها في التجارة الخارجيّة، تساعدها على التقليل من مخاطر حدوث أزمة في العملة.
فهي تُعد خطوة جيدة بالنسبة للإقتصاد الذي يعتمد في احتياجاته على الخارج ولا يسدّ احتياجاته كما هو حاصل في لبنان الذي يستورد معظم المنتجات من الخارج، في حين ان ترك الأمر للسوق قد يدفع إلى الاضطرابات السياسية والاحتجاجات وهو ما يؤثر سلباً على الاستثمارات الخارجية ويدفعها للهروب نتيجة عدم الاستقرار السياسي.
لذلك بالنسبة للدول التي لا تملك بُنية قوية للإنتاج ولا تزال في بدايتها على هذا المستوى، فإنه من الافضل اتباع هذه السياسة لكي يتم الحفاظ على استقرار العملة المحلية وحماية الاقتصاد المحلي بسبب عدم وجود انتاج قوي.
لكن في لبنان، أصبحت السياسة النقدية في خدمة السياسة المالية للحكومات المتعاقِبة خلال أكثر من ثلاثين عاماً، حيث استغلّت السلطة السياسية تثبيت سعر الصرف بتسخير القطاع العام لمصالحها الشخصية والسياسية والحزبية على حساب القطاع الخاص. وأظهرت هذه العملية فشلاً وعبئاً كبيرين دون أي إنتاجية.
إنّ السياسيين لم يستغلوا فرصة تثبيت سعر الصرف لرفع الإنتاجية وخلق قطاع زراعي وصناعي وتكنولوجي، بالإضافة إلى أنّ لبنان غير مستقر أمنياً وسياسياً، ما يؤثر على إدخال العملة الصعبة عبر السيّاح والاستثمارات المباشرة في ظل عدم وجود صادرات لتعويض العجز.
الخلاصة: ان هذه السياسة نجحت في البداية، وتمكّن لبنان من جذب رؤوس الاموال والاستثمارات كما كان متوقعاً حيث يتم في العادة تثبيت سعر الصرف لفترة محددة، ريثما يتم تفعيل القطاعات المنتِجة لتعزيز الصادرات وإدخال العملة الصعبة، لكنّ الحاكم وربما تحت ضغط او ابتزاز السلطة السياسية قام بتلبية رغباتها، وأمّن لها التمويل الدائم، وأصبح تثبيت سعر الصرف مكلفاً جداً، وأكبر عبئاً على لبنان، وشكّل واحداً من المسببات الأساسية للانهيار والنزيف الحاصل في الاحتياطي الأجنبي.
ويمكن القول انه لم يتم الاستفادة من هذه السياسة لتحسين الانتاج الصناعي والزراعي لمساندة قطاع الخدمات بسبب جشع السلطة، وان مَنْ تبوّأ منصب أفضل حكّام المصارف المركزية في العالم عدة مرات قد سقط في دهاليز السياسة. وها هو يواجه في الايام القادمة وفداً من المحققين الدوليين، فهل يكون وحيداً ضحية النظام السياسي الفاسد ام انه سيبقّ البحصة «عليّ وعلى أسيادي يا رب»؟
(*) خبير مالي ومحاسبي