في بقعة التقاء، بين النبعة وبرج حمود وسن الفيل، عند جانبي مقطع السكة الحديد بالتحديد، تتبعثر بيوت ومحال بشكلٍ فوضوي غريب عجيب. هناك، بين تلك البيوت، تحصل غرائب عجائب. وكلما تسلل الليل كلما أصبحت وكراً مفتوحاً على كل ما تتخيلون. فلنذهب الى هناك قبل غياب الشمس.
هو كانون الثاني، لكن صراخ الأهالي تعدى الأعوام الكثيرة وتضاعف في الأشهر القليلة الماضية مرات ومرات. نسأل عن «شارع الدوامرة» الذي سكنه ذات يوم مهجّرو بلدة الدامور (العام 1976)، فتشير الأصابع الى الجسر المعلّق فوق منطقتي برج حمود والنبعة. هناك، تحت الجسر، حيث النقطة الفاصلة بين برج حمود وسن الفيل، جنب النفايات المتكومة، تخشيبة تبيع فنجان القهوة بسبعة آلاف ليرة، ومقعدان حجريان يجلس عليهما رجال بلا أفق، بلا أحلام، بلا حاضر ومستقبل، ويتمنون لو ينسون الماضي ليتمكنوا من الصمود.
في انتظار إعاشة
نحمل في ايدينا ورقة وكاميرا فيهرولون وراءنا سائلين بلهفة: إعاشة... إعاشة... تلاشت أحلامهم الى حدود صندوقة إعاشة. يتململون حين يعرفون أن كل ما قد نقدمه هو «تظهير» شكل شوارع ما عادت تلائمهم. أحدهم يجلس على كرسي متحرك، في الستين من عمره، يتكلم عن والدته التي لديها محل سمانة في الشارع المحاذي. أنذرها صاحب الملك بالإخلاء لأنه يريد الإيجار بالدولار الطازج «كل الملاكين يريدون «الفريش» ولا أحد قادر على سداده إلا العمال الأجانب». رجل آخر يبتسم كثيراً ولو من قلب مجروح يسكن في الشارع «لا بيت لي. أنا بلا مأوى homeless . إسمي إسحاق أبراهيميان. كنتُ «مركّباتي» ألماس ودارت علي الدنيا. خضعت الى ثلاث عمليات في يدي اليمنى وأصبحت بلا عمل. إسألي عني. كلهم يعرفونني. أنا الآن أعمل في جمع التنك من الشوارع وأبيع الكيلوغرام الواحد، في بورة النبعة، بسعر 45 ألف ليرة» ويستطرد «مش أحسن من السرقة والشحادة». نشعر به وكأنه يريد تبرير عمله قبل أن يزيد «خسرت الكثير لكني لا أريد أن أخسر كرامتي».
الرجال المتحلقون لديهم الكثير ليقولوه. هم يتحدثون عن «جهنم» يعيشون فيها مضاعفة. وكل همهم اليوم هو أن يجدوا من يمدّ لهم يد العون. «البارحة وصل بيك آب محمل إعاشة رجوت الصبية التي تحمل لائحة بأسماء محظية أن تسجل إسمي فأجابتني: مسيو ما هو رقم هاتفك؟ أجبتها: لو كنت أحمل هاتفاً لما طلبت إعاشة» يعلق أحدهم.
ندخل في اللبّ أكثر: ماذا عن كل الكلام عن دعارة تحصل في الشوارع المتفرعة؟ يقترب أحد الرجال منا كثيراً ويهمس: «لا أحد يمشي هنا ليلاً إلّا... (يقوم بحركة بيده نحو أنفه دلالة الى أن الليل لمتعاطي المخدرات). ويستطرد «البارحة دخل إبني الى البؤرة فلاحقوه... والله العظيم والله العظيم الداخل مفقود والخارج مولود».
ندخل أو لا ندخل؟ تراودنا شكوك وتساؤلات كثيرة حول ما قد نجده في شوارع يفترض أنها شعبية. يطمئننا رجل آخر «التعاطي يحصل ليلاً. «الزعرنة» بالليل. أدخلوا وإذا تأخرتم نبلغ عن ذلك» يقول ذلك ضاحكاً. نتذكر المثل القائل «العيون تبتسم والقلوب دامعة».
كلّو دعارة
دخلنا الى شارع الدوامرة. ثمة محل مكتوب على زجاجه الخارجي: I love Ethiopia. نقترب منه. هناك فتاتان إثيوبيتان في الداخل. ماذا تفعلان هنا؟ تجيب إحداهن: «أنا صاحبة المحل وابيع الخبز الإثيوبي. الربطة الواحدة بعشرين الف ليرة». على الزجاج الخارجي إعلان: بيوت للإيجار. إعلانات الإيجار كثيرة في الشارع. بيوت ومحال معروضة للإيجار أو للبيع. وسكون كبير. إرموا الإبرة تسمعون رنّتها. نتوغل أكثر. ثمة محل يخرج منه صوت موسيقى مقفل بستارة حمراء. هو نايت كلوب يتلاءم مع المكان.
هي في الأرقام منطقة 1 شارع 58. الشوارع رقّمتها - بالأجنبي- هبة أجنبية. رجلان يجلسان على كرسيين أمام محل لبيع مواد الكسر: نحاس أصفر، أحمر، رصاص، دواخين للسيارات... سوريان هما. نسألهما عن أحوال الشارع فيجيبان بقلق: لا شيء نافر. الزعران من كل الجنسيات. ونحن لا نخرج ليلا تجنباً للمشاكل. والبلد فالت». لا أحد يريد الغوص أكثر في ما يحدث. إمرأة مسنة تقف أمام صالون حلاقة. تبدو كأنها تعرف الكثير لكن من يتكلم هو إبنها فقط. يخرج ابنها الحلاق من صالونه المتواضع معرفاً عن نفسه: «أنا اعمل أيضا لمصلحة مكتب شرطة الآداب». نسأله عن الحيّ فيجيب بالمختصر المفيد: «كلو دعارة» يضيف «الأفريقيات يعملن في الدعارة والزبائن رجال مسنون يملكون المال. داهمت شرطة الآداب الحيّ منذ أيام وأخذت نحو مئة فتاة وهناك مئات بعد. وهذا الأسبوع، خلال اليومين المقبلين ستحصل مداهمة جديدة. إنهن موجودات عند مقطع السكة، في المباني جنب محل الست آمال. وليلا تحصل عمليات تشليح كثيرة هنا. ورئيس البلدية نائم».
رئيس بلدية سن الفيل هو نبيل كحاله. إتصلنا مراراً ولا أحد يجيب. لا أحد ينفي أن منجزات البلدية كثيرة لكن هذا الحيّ خرج عن طوعها. ما يحدث في البلد بات بحجم جهنم كبيرة كبيرة.
فلنعد الى الواقع، الى الأرض، الى جنبات بيوتات الدعارة بين البيوت السكنية. نصل الى ميني ماركت الستّ آمال. هنا، في الشارع المتفرع، مبان متلاصقة مليئة بالفتيات العاهرات. ندخل الى الميني ماركت. هناك رجل يُمسك بكتاب، صفّ روضة، باللغة الفرنسية، وحوله فتاتان. نسأله عن أحوال الحيّ؟ يجيب بسرعة «تعتير» قبل أن يستطرد «مشغول، لا أستطيع الكلام. أعلّم بناتي». نسأله عن الست آمال؟ يجيب «ترتاح في البيت».
لا شيء ظاهراً يوحي بأننا في بوتقة دعارة. في المقابل، كل شيء يشي بأننا في مكان مليء بالغموض. وبين واجهة دكانة وواجهة دكانة أخرى هناك إعلان إيجار. هنا، في شارع عبد الحميد كرامي، حصلت قبل أسبوعين جريمة قتل. سوري طعن إبن عمه السوري على الطرق. هناك، بالقرب من ملبوسات أبو عباس مبنى تسكن فيه حبشيات ينغلن في الليل ويسترحنّ في النهار. ثمة إثيوبية خرجت للتوّ من سوبرماركت مجاورة حاملة ربطة خبز. نسألها عن الحيّ وناسه وأموره تجيب بحذر: «أنا هنا في ضيافة قريبتي» وتغادر.
عجقة محال ولا زبائن
تمثال كبير للسيدة العذراء عند مقطع السكة وتمثال لمارالياس الحيّ. وكثير كثير من السكون الذي لا يُشبه ضوضاء التفاصيل المحيطة على بعد أمتار. ندخل الى ميني ماركت عساف. نخرج منه لندخل الى محل الكندرجي. نخرج منه لندخل الى صالة التدليك. نخرج منها لندخل الى صالون تزيين شعر الإثيوبيات وثياب «البالة»وأدوات الصحية المستعملة وباعة التنك... محلات تتزاحم وتتجاور لكن بلا زبائن، ولا يُضاهيها إنتشاراً إلا المحال المقفلة التي تنتظر شارياً أو مستأجراً. الحيّ، حيث نحن، مملوك من لبنانيين من كل الطوائف، سنّة وشيعة ومسيحيين. يُخبر صاحب أحد المحال الغذائية ذلك بفخر. هو الأمر الوحيد الجميل في ذاك الحيّ. لكن، ما هو سيئ أن كل المالكين، من كل الطوائف، قرروا أن لا يؤجروا إلا لحاملي الدولارات الفريش. وفي حال المباني التي يملكونها فهي لا تليق إلا بالأفريقيات ومشغليهن. وهذا ما كان.
نبحث عن الحبشيات عبثاً. هنّ يعلمنَ أن الشارع بات خطراً عليهنّ. و»هناك دوريات أمنية تصل يوماً بعد يوم- يبقى عناصرها نحو ثلاثين دقيقة - ثم تغادر. يبدو أن صراخ الأهالي سُمع قليلا لكن، تستمرّ المنطقة خطيرة». تتحدث إمرأة تمرّ مسرعة في المكان.
ثلاثة أطفال يلعبون أمام متجر لبيع المواد الغذائية، يطرحون على بعضهم حزازير: واحد يملك خمس تفاحات أعطى ثانياً أربع فكم تفاحة بقي معه؟ يجيب رفيقه: تفاحة واحدة. يردّ ضاحكا: غلط. يحاول الطفلان الآخران حلّ الحزورة عبثاً وحين يقولان: «كعينا» يجيبهم السائل: خمس تفاحات فهو عاد وسرقها مجدداً. حزورة قد لا نسمعها إلا من أطفال هذا النوع من الأحياء.
تتكرر قصص الإيجارات هنا. أحد أصحاب المكاتب العقارية المجاورة أمضى أكثر من ستين عاماً في محله ودارت الدورة عليه الآن. يقول: «أنذرني صاحب الملك بالإخلاء لأنني لم أنزل، شهور عدة، الى محلي عام 2020 بعدما توفيت زوجتي. والآن أنا أمام المحاكم». نشعر نحن ونستمع إليه بأغنية سلوى القطريب «جبنا الأقرع تيشجعنا كشّف على القرعة وفزّعنا ...». هو سمسار عقارات ومشكلته كبيرة. نحاول أن نتجاوزها بسؤالنا: ماذا عن السوق العقارية في هذه النقطة الجغرافية؟ يجيب: هناك محال كثيرة معروضة للإيجار لكن أصحابها لا يقبلون إلا بمن يملك «الفريش»، والمستأجرون يريدون أن يفتحوا «أراكيل». لا شيء يمكن فتحه هنا غير ذلك».
يتسلل الليل. هل نتابع جولتنا؟ نصيحة أحدهم لنا: غادروا قبل أن تغيب الشمس لأن الأمور قد تخرج عن السيطرة في الظلمة. نغادر وفي البال، أحياء يفترض أنها سكنية في قلب البلد، ألف سؤال وسؤال. نغادر بعد أن أعلمنا أن «الوقت قد حان لظهور العاهرات».