زيزي إسطفان

سياحة درامية وسط أزمة دراماتيكية

لبنان عاصمة طبيعيّة للدراما العربيّة

20 كانون الثاني 2023

02 : 01

للموت
لا يقفل باب في وجه اللبناني إلّا ويفتح آخر وكأن العناية الإلهية لا تريد لهذا البلد أن يموت. رحيل الـMBC عن بيروت شكّل نكسة للصناعة الفنية وكلّ من يدور في فلكها بلا شك، لكنّ لبنان بمقوّماته الطبيعية وطاقاته البشرية استطاع رغم غياب المؤسسات الإعلامية والإنتاجية الكبرى أن يتحوّل إلى أرض لصناعة الدراما العربية تستقطب صنّاعها إليه من الدول المجاورة. صناعة ساهمت في تحريك عجلة اقتصاده بشكل غير متوقّع وأنعشت مناطق الأطراف فيه.

منذ بضع سنوات يتابع المشاهدون العرب عبر شاشات التلفزيون والمنصات الرقمية المستجدة أعمالاً درامية ذات مستوى عالٍ تتميز، إلى جانب المقوّمات الدرامية، بروعة المناظر الطبيعية التي تحويها وفخامة البيوت والقصور التي تشكّل مسرحاً لأحداثها، كما بواقعية الأحياء الشعبية التي تعطي للقصة مصداقية مقنعة. لا غرابة في ذلك، فالمناظر في لبنان والمناطق اللبنانية المختلفة صارت استوديو تصوير شاسعاً في الهواء الطلق بعد أن بات لبنان يجتذب شركات الإنتاج العربية لتنفّذ أعمالها على أراضيه.

حلقة محكمة يتبادل فيها الطرفان الخدمات والفوائد فيحرّك صنّاع الدراما بإمكاناتهم المادية وميزانياتهم الضخمة عجلة الاقتصاد اللبناني ويساهمون في إيجاد مئات فرص العمل للمختصين في مجالات مختلفة، ويساهم لبنان من جهته في تقديم التسهيلات اللوجستية والخبرات البشرية الى جانب المقوّمات الطبيعية لصناعة الدراما المميّزة لا سيما بعد أن باتت اسعار الخدمات فيه بالنسبة إلى من يمتلك العملة الصعبة أقل بكثير من السابق.



روبير فرنجية



بلد صديق للدراما

يرسم المنتج الفني وصاحب شركة International film production حماده جمال الدين صورة لتحوّل لبنان الى استوديو للشرق قائلاً: «بات لبنان يستقطب صنّاع الدراما من الدول العربية ولا سيّما من سوريا لأنه يمتلك أرضاً خصبة لصناعة الدراما أبرز مقوّماتها الانفتاح الفكري السائد في لبنان وتعاون الناس فيه درامياً ومواقع التصوير الرائعة التي يقدّمها سواء الطبيعية أم العمرانية إضافة الى الكثير من التسهيلات التي تجعل منه بلداً صديقاً للدراما».

ويؤكد جمال الدين أن الدراما تشهد اليوم التحاماً تاماً بين الأعمال اللبنانية والسورية ولم يعد هناك تمييز بين الممثلين لا بل صارت اللهجة البيضاء التي تتعالى فوق اللهجات المحلية هي المعتمدة. حتى الخليج العربي بات يصوّر بعض أعماله في لبنان لأسباب عدة منها العامل البشري وعامل الطقس، كما هناك انتقال لبعض المنتجين الكبار من مصر الى لبنان. «فالمنتج صادق الصبّاح مثلاً يقول جمال الدين، سحب مصر كلّها الى لبنان وأنشأ مدينة إنتاج فيه، وكذلك فعل منتجون مصريون آخرون أنشأوا لأنفسهم مركزاً في لبنان وأتوا بفريق عملهم المصري. وكثير من المنتجين اللبنانيين باتوا يفضّلون العمل في لبنان بعد أن كانوا يتواجدون في مصر أو سوريا أو الخليج العربي».

وقد عملت شركة الصبّاح أخوان على تنفيذ العديد من المسلسلات المصرية في لبنان وحوّلت شوارعه وسيّاراته الى حارات مصرية معيدة بذلك إلى بيروت الموقع الفني الذي كان لها في الستينيات. وقد انعكس منع المنتجين اللبنانيين من العمل في مصر إضافة الى الحظر الخليجي إيجاباً على لبنان الذي استفاد مادياً واقتصادياً بعودة الإنتاجات الدرامية الى أرضه.

وقد ساهم هذا التواجد لشركات الإنتاج في تحريك العجلة الإقتصادية بشكل واضح، فكلّ مسلسل مثلاً يتطلّب حجز فنادق لفريق العمل بأكمله من ممثلين وتقنيين سواء في بيروت وضواحيها أم في المناطق الجبلية البعيدة وقد ساعد هذا على تنشيط الحركة الفندقية خارج المواسم السياحية المعهودة وساهم بشكل خاص بتفعيل السياحة البيئية في المناطق الريفية والجبلية وتشجيع المنتجات المحلية فيها. هذا دون ذكر تشغيل مئات اللبنانيين من أصحاب الاختصاص لا سيّما أن هؤلاء مشهورون بذوقهم وخبرتهم في مجالهم لا سيّما في ما يتعلق بالإدارة الفنية وتصميم الملابس والماكياج والتزيين وغيره.



قرية عرجس




سياحة درامية

سياحياً استفاد لبنان أيضاً من تحوّله عاصمة للدراما وفق ما يقول الناقد الفني روبير فرنجية، إذ إنّ مناطق لبنانية عدّة صارت مقصداً للزائرين من داخل لبنان وخارجه ليتعرّفوا الى المواقع والبيوت التي تمّ فيها تصوير مسلسلاتهم المفضلة. ويذكر على سبيل المثال القصر القديم الذي جرى فيه تصوير مسلسل «ثورة الفلاحين» في منطقة جزين اللبنانية الجنوبية الذي صار مقصداً لمحبّي المسلسل مثله مثل القصور التركية التي صوّر فيها مسلسل «حريم السلطان» المعروف أو ساحة حمّانا التي شهدت أحداث مسلسل «الهيبة». كذلك يذكر فرنجية قرية «عرجس» الشمالية التي باتت تعتبر بأكملها استوديو رائعاً في الهواء الطلق نظراً الى فخامة بيوتها وتوافرها للتصوير كون معظم أهلها من المغتربين الذين لا يقيمون فيها إلا لوقت قصير صيفاً...

باتت البيوت المعدّة للتصوير مصدر ربح لأصحابها يقول فرنجية، إذ إنّ المنتجين يعمدون الى استئجارها طوال فترة التصوير بعد أن كان أصحابها يتباهون بإعارتها للتصوير سابقاً. وثمة منازل باتت علامات فارقة تتكرّر في أكثر من مسلسل ذلك لأن شركة الإنتاج تحاول الاستفادة منها قدر الإمكان وهي تبني فيها ديكورات ملائمة للتصوير. وتشكّل المناطق الريفية اللبنانية خياراً ممتازاً للأعمال التاريخية أو التي تعود قصتها الى مراحل زمنية سابقة لأنها تؤمّن إطاراً مناسباً بعيداً عن مظاهر الحياة العصرية. وغالباً ما يتمّ اللجوء الى بعض الأديرة الدينية القديمة التي حافظت على طابعها التراثي وبعض القصور التاريخية لتكون مسرحاً لهذا النوع من المسلسلات».





حمادة جمال الدين



بدوره يخبر رئيف وهو صاحب منزل ريفي بسيط في منطقة صوفر الجبلية أن منزله بات استثماراً رابحاً في الصيف والشتاء بعد أن غدا مقصداً للمنتجين يطلبونه لتصوير مسلسلاتهم. ويؤكّد الرجل البسيط أنه لا يتردّد في منحهم الإذن بإدخال التعديلات التي يرونها ضرورية على البيت ففي النهاية هم يدفعون ثمنها ويمكنه الاستفادة منها كما يستفيد من إيجار البيت الذي يصل حدّ 800 دولار أسبوعياً وأكثر أحياناً.

«ثمة مناطق لبنانية بعيدة عن العاصمة أي في الأطراف باتت معروفة جداً وتستقطب المنتجين والمخرجين» يقول فرنجية، «مثل البترون وجبيل والضنية وإهدن وجزين وفيها بيوت أصبح من السهل على المشاهد التعرف إليها عند زيارته هذه المناطق. فعلى سبيل المثال تم تصوير مشاهد مسلسل «للموت» في جزئه الأول في منطقة إهدن الرائعة التي وفّرت إطاراً طبيعياً أضفى على المسلسل أجواء خاصة وتمّ تصوير لقطات كثيرة منه في أحد فنادق المنطقة. وتزداد جاذبية هذه المناطق إذا توافرت فيها فنادق أو شقق مفروشة يمكن للممثلين وفريق العمل المبيت فيها. حالياً بات هناك أشخاص مختصون يعملون على البحث عن المواقع التي تستحق أن تكون أماكن تصوير لإفادة أصحابها من جهة والمنتجين من جهة أخرى. وبات المنتجون العرب يستسهلون التصوير في لبنان بسبب مواقع التصوير التي تغنيهم عن الاستوديوات وتوافر التقنيين المختصين والمحترفين بأسعار مقبولة جداً وتدني كلفة الإنتاج بشكل عام نظراً الى تراجع سعر الليرة اللبنانية».

وبما أن اللبناني بارع في الاستفادة من كل الظروف فقد عرفنا أنه نظراً للإقبال العربي على التصوير في لبنان نما «بزنس» رديف هو عبارة عن شركات إنتاج وهمية يتمّ تأجيرها الى المنتجين العرب للتهرّب من الضريبة لأن لبنان يؤمّن تسهيلات ضريبية كبيرة للمنتجين العرب ما يثير حفيظة المنتجين اللبنانيين الذين يطالبون دولتهم بمعاملتهم بالمثل.



ثورة الفلاحين






صعوبات لا تلغي التسهيلات

لكن هذا الواقع المشرق للتقاطع بين قطاع الدراما والسياحة اللبنانية تعاكسه صعوبات إدارية ومالية كثيرة يتحدث عنها المنتج الفني حمادة جمال الدين الذي يقول إن الأسعار التي كانت مقبولة جداً في بداية الأزمة ارتفعت مع ارتفاع سعر الدولار وتعرفة الكهرباء وأسعار المازوت وكل الخدمات وشهدت الفنادق زيادة في تعرفتها لم تكن شركات الإنتاج قد حسبت لها حساباً في ميزانياتها. ويشرح الوضع قائلاً «معظم الفنادق لا يقبل الشيكات أبداً ويطلب الدفع حصراً بالدولار وأسعاره ارتفعت كثيراً عن السابق رغم كونها لا تزال أقل بـ10 الى 20% عمّا كانت عليه قبل أزمة لبنان المالية. وأماكن التصوير من جهتها ارتفعت كلفتها لا سيّما تلك التي باتت مشهورة أو في أماكن معروفة بجمالها الطبيعي أكثر من سواها». ومن هنا، يطرح تساؤل: هل وصل تجّار الأزمات الى الدراما أيضاً وصاروا يستغلّون حتى المواقع الطبيعية في لبنان؟

الى التعقيدات المالية تضاف أزمة الكهرباء ووصول كلفتها الى مستويات غير مسبوقة وكذلك تأمين المازوت للمولّدات وكلفة النقل. وقد ولّدت هذه الأمور لدى المستثمرين في الدراما وشركات الإنتاج نوعاً من الخشية الدائمة دفعت بعضهم الى الهروب. لكن رغم كلّ الصعوبات يؤكد جمال الدين أن» لبنان يبقى أسهل بكثير من غيره من البلدان بالنسبة إلى تصوير الدراما ولا يتطلّب إجراءات إدارية كبيرة».

لكنّ هذه السهولة لا تنفي وجود عوائق أمنية ومصرفية حيث إن الأمن العام اللبناني متشدّد جداً بالنسبة للأجانب وللموافقات على دخولهم وغالباً ما يقوم بدوريات على مواقع التصوير للتأكد من أن كل الموجودين حائزون أوراقاً رسمية، وقد يعمد الى إيقاف التصوير أو إغلاق الشركات مؤقتاً في حال حدوث خروقات. أما مالياً وهنا المصيبة الكبرى فالمصارف لم تعد تقدم أية تسهيلات مالية الى قطاع يدخل مبالغ كبيرة من الفريش دولار الى لبنان ويساعد في عزّ الأزمة على تشغيل أعداد هائلة من الفنيين والتقنيين والقطاعات المساعدة.

الدراما صناعة قد لا تدخل في جدول الصناعات اللبنانية المعروفة لكنّها قادرة بإمكانياتها الضخمة ورساميلها الخارجية على ضخّ الحياة في قطاعات عدة والأجدر بالمسؤولين احتضانها وتوفير كل الدعم لها.