شربل شربل

ريمون شبلي... ترك الشعر مصباحاً على العصر

30 كانون الثاني 2023

02 : 01

غيّب الموت، في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، الأديب "ريمون شبلي"، الذي ولد منذ سبعين سنة، في ساقية المسك، توأمة النعص (بكفيّا).

إعتلى منبر تعليم اللغة العربيّة وآدابها لأكثر من أربعين سنةً، وكان من خيرة المعلّمين، البارعين، الذين يعتبرون التعليم رسالةً.

عقد، منذ الصبا، صداقةً مع اليراع لم تنفصم عراها إلّا تحت وطأة اشتداد المرض الذي أودى به. فحبّر أكثر من عشرين كتاباً، ما بين نثر مترفٍ، وشعر مرهفٍ، متنوّع الأشكال والألوان.

عرفته أصيلاً في الثقافة، مكتنزاً، بعيد الغور، يصول ويجول في أمدائها، ويُتحف سامعيه بالرأي السديد، والحجّة الدامغة، والطرفة غير المصطنعة.

كان يحفظ عهد صداقة قديمة للشاعر جورج عبدالله غانم، وقد ترسّم خطاه في تنويع التجارب الكتابيّة، وتطوير التعبير. لذا، كان يتحدّث عن القصيدة الأصيلة شكلاً التي خرجت من جذعها بنتٌ رشيقة القوام… بنت حرّة التفعيلة كخطى النسائم العليلة، ترقص في خِفّة البُرد…

لقد عشق شاعرنا الأمّ وابنتها، وقدّم لهما خواتم الماس، وسبائك الذهب، وأطواق اللؤلؤ والياسمين، من صنع يديه، لا بل من صنع موهبته وكيانه المشبع بجمالات الطبيعة اللبنانيّة، وبالغنى الثقافيّ الذي حصّله بدأبه المتواصل، وشغفه المستدام.

وكان ناثراً بامتياز، فتجلّت موهبته النثريّة في مقالاته النقديّة التي أودعها دفّتي "هوامش على عالم الشعر والقصيدة" حيث تلفتك دقّته في استعمال المصطلحات وصياغة التعابير، وبراعته في التوصيل.

كذلك تتجلّى هذه الموهبة في مقالاته الأدبيّة، كما في "عسى"• وهو وجدانيّات نثريّة تأمّليّة، تحاكي الشعر، وتتميّز مضمونًا وشكلًا، وتفصح عن ثقافة إنسانيّة بعيدة الغور، ينسجم فيها الفكر والوجدان ليقدّما للقارئ توليفةً آسِرة.

وقل مثل ذلك في كتابه "هل" الذي جمع فيه مقالات كتبها في المجلّة "وتبقى الكلمة" التي أشرف على إصدارها لسنوات…

وهو خطيب لامع تميّز في تقديم الاحتفالات، والمشاركة في المهرجانات الأدبيّة، حتّى صار علامة مميّزة في هذا المجال، تشتاق المنابر وقفته، ويهزّ أركانَها إلقاؤه الفنّيّ الرائع.

وكان أحبّ الألقاب إلى نفسه لقب " الشاعر". ونظمُه لا يقصّر عن نثره. يسعفه خيال خلّاقٌ، وعاطفة دفّاقة، وفصاحة وبلاغة في أعلى مراقيهما، وأسلوب يشفّ ويرقّ في الوجدانيّات، وخصوصاً شعر الحبّ، ويرغي ويزبد في الاجتماعيّات والوطنيّات والدفاع عن الحقّ والحرّيّة والذود عن الحياض.

أقتطف من ديوانه "كأنْ أسقطتِ ذاكرتي، شعر في الحبّ" أبياتاً من أولى قصائده:


من بينهنّ… وقد صار التخيُّرُ ما

شاء التمنّي.. فصرتِ الوردة الأغلى

وحوليَ الوردُ أطيابٌ ملوّنةٌ

ولونُ عطركِ في عينيْ هو الأحلى…

نسيتُهنّ كأنْ أسقطتِ ذاكرتي

كأنّكِ امرأةٌ من طينة مُثلى

سكنتُ عينيكِ يغريني ربيعُهما

بأخضرٍ مطمئنٍ ينشر الظلّا

سكنتِ بالي وأشواقي وأزمنتي

سكنتني وردةً ترتدّني طفلا.


وقد خصّص لشعره المنبريّ ديوانه "شرفات وقصائد"، واستهلّه بالقصيدة "شاعر الحداثة الأصيلة جورج غانم" التي ألقاها لمناسبة مرور سنتين على رحيل جورج غانم المفاجئ. وهي من عيون الشعر العربيّ في الرثاء، وقل في الوفاء، والتقدير، وحفظ الغيبة.

أمّا القصيدة "مَنْ ذا نغنّي" فألقاها في احتفال تخريج طلّاب ثانويّة الياس أبو شبكة، في المدرج الروماني في زوق مكايل، ومطلعها:


يقف الزمانُ هنيهةً عند المساءْ

أم «زوق» تغويه ويحلولي اللقاء؟

تبختري بثوبك الممشوقْ

يا بلدة السلام، يا «زوقْ»

وأنتِ بسمة بريئةْ

وأنتِ كلْمة مضيئةْ

ونجمة معشوقةْ

في وطني المعشوقْ!



وختاماً، أستعير لكَ، يا صديقي، ما قلتَه في ذكرى غياب جورج غانم:

تغيبُ…؟ لا! يستردّ الله حنطتَه

ويترك الشعر مصباحاً على العصر.




MISS 3