رامي الرّيس

التقهقر الفرنسي في أفريقيا: وجه جديد من أوجه الإنحسار الدولي

31 كانون الثاني 2023

02 : 01

جنود فرنسيّون في بوركينا فاسو (أرشيف - أ ف ب)

تتداول الأوساط السياسيّة والديبلوماسيّة الفرنسيّة في النقاشات المغلقة مآلات السياسة الخارجيّة الفرنسيّة في أفريقيا، لا سيّما مع تصاعد الاحتجاجات الشعبيّة في بوركينا فاسو وتنامي المشاعر المعادية لباريس وصولاً إلى مراسلة وزارة الخارجيّة في تلك المستعمرة الفرنسيّة السابقة للمطالبة بالانسحاب العسكري من أراضيها بالتوازي مع التراجع عن الاتفاقيّة الدفاعيّة الموقعة في العام 2018.

وتأتي هذه الخطوة بعد خطوة مماثلة كانت قامت بها مالي سابقاً ما أدّى إلى خسارة فرنسا موطئ قدم لها في القارة السمراء التي كانت أكثر من نصف أراضيها بمثابة مستعمرات فرنسيّة في القرن الماضي، والتي كانت باريس قد افتتحت مغامرتها الكولونياليّة فيها بدءاً من الجزائر سنة 1830، وكرّت السبحة بعد ذلك.

ثمّة عناصر سياسيّة واقتصاديّة عديدة تتدافع وتتشابك لتؤدي إلى التقهقر التدريجي للنفوذ الفرنسي في القارة بشكل عام، بعضها يفسّر إصرار بعض الدول الأفريقيّة على الانتقال من المربع الفرنكوفوني إلى نظيره الأنغلوساكسوني أو حتى الأميركي والصيني.

لم تعد أفريقيا تلك القارة «العذراء» التي لا تكترث لها القوى الدوليّة، بل على العكس تماماً، ذلك أن الصين والهند والبرازيل والولايات المتحدة وروسيا وصولاً إلى تركيا وباكستان وإسرائيل، جميعها ترغب بمد خيوط نفوذها إلى أنحاء القارة المختلفة التي تشتهر بمواردها وثرواتها الطبيعيّة الكبيرة والتي تحتاج إلى استثمارات وتوظيفات ضخمة. لذلك، تصطدم المحاولات الفرنسيّة الحثيثة لنقل النفوذ العسكري إلى المساحة الاقتصاديّة بالكثير من العثرات التي لا يبدو أنه من السهل إزاحتها من أمام الدروب الفرنسيّة. لم يعد العالم مجرّد مناطق نفوذ موزّعة بشكل منظم على القوى الاستعماريّة الكبرى كما كانت في القرنين التاسع عشر والعشرين، بحيث «تحترم» الدول الكولونياليّة المساحات التي تتقاسمها وديّاً أو عن طريق العنف.

لقد تغيّرت مسارات السيطرة السياسيّة وبسط النفوذ الدولي من الصدام البارد غير المباشر أو الملتهب عسكريّاً إلى الصراع التجاري والاقتصادي الذي يحصل فقط من خلال إنفاق مبالغ استثماريّة ضخمة في الدول المستهدفة أم من خلال التغلغل التجاري عبر إغراق الأسواق بالسلع والبضائع المنتجة والجاهزة للاستهلاك الشعبي.

أما القضايا الإشكاليّة الأخرى التي تفرض نفسها بقوّة على المعادلات الفرنسيّة - الأفريقيّة، فتتمثل بتنامي المشاعر الشعبيّة السلبيّة حيال اللغة المزدوجة التي تتبنّاها باريس في شبكة علاقاتها الواسعة مع دول القارة، فهي ترفع لواء قضايا حقوق الإنسان والحرّيات والديمقراطيّة في مجمل أدبيّاتها السياسيّة وتتغاضى عنها تماماً في علاقاتها الوطيدة مع بعض أعتى الديكتاتوريّات الأفريقيّة التي تمادت في مصادرة حقوق شعوبها في الحرّيات العامة والخاصة، ولم تمارس الحدّ الأدنى من الأصول الديمقراطيّة، ولو حتى في الشكل أو اللفظ.

لا شك أن هذه الازدواجيّة لا تقتصر فقط على فرنسا، بل هي تكاد تكون معتمدة في معظم دول المعسكر الغربي الذي يُجيد ممارستها منذ عقود. التاريخ المعاصر في العلاقات الدوليّة غالباً ما يزدحم بالأمثلة السياسيّة الواضحة عن اعتماد تلك السياسات بما يتلاءم حصراً مع مصالحها الخاصة. أما العناوين البرّاقة المتصلة بالديمقراطيّة وحقوق الإنسان، فتُركن جانباً أو تُرمى في سلة المهملات إذا ما كانت تتعارض مع الحسابات العائدة لها.

من أجل كل ذلك، فرنسا بحاجة لإعادة بناء سياستها الخارجيّة في ما يتعلّق بأفريقيا، وهو ما قد يتطلب بناء مقاربات ديبلوماسيّة جديدة يتم من خلالها توسيع دائرة القرار السياسي المحصور حالياً برئيس الجمهوريّة ومستشاريه وبعض رموز «الكي دورسيه».

ليست القضيّة سهلة. فرنسا لا تزال تعتبر نفسها قوّة دوليّة، وهي تملك العديد من تلك العناصر، إلّا أنها ستبقى قاصرة عن منافسة واشنطن وموسكو وبكين، أقله في المدى المنظور وليس قبل أن تظهر نتيجة «تطاحن» تلك القوى الدوليّة العظمى!