عيسى مخلوف

وقفة من باريس

الذكاء الاصطناعي لأَيّ إنسانيّة؟

8 شباط 2020

13 : 11

لا ينحصر الحديث عن الذكاء الاصطناعي داخل المختبرات العلميّة فقط، لأنه أصبح جزءاً من نشاطات بعض كبريات المراكز الثقافيّة في العالم، ومنها "مركز جورج بومبيدو الثقافي" في باريس الذي تحوّل، بفضل برنامجه "تحوّلات وابتكارات"، مختبراً للإبداع والابتكار من خلال تفاعل الفنون والعلوم والهندسة. وتشارك في هذا المختبر، كلّ عام، نخبة من الفنّانين والمهندسين والعلماء.

في هذا السياق، يقيم مركز بومبيدو سنوياً نشاطات ثقافيّة تتألّف من ندوات ولقاءات ومعارض يتمّ التطرّق فيها إلى هذا الموضوع وتعميقه. آخر هذه المعارض يُفتتح هذا الشهر بعنوان: "الخلايا العصبيّة، مُحاكاة الذكاء"، يتبعه معرض ثانٍ، في شهر حزيران المقبل، لأعمال الفنانة الألمانية هيتو ستيياري التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لإنجاز أفلام تحمل رسائل نسويّة وبيئيّة. مقابل ذلك، تُعرَض في عواصم أوروبية عدّة لوحات تَوصَّلَ إليها الفنانون عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، وقد بلغ سعر بعضها في مؤسّسة "كريستيز" للمزادات العلنيّة في نيويورك أكثر من 400 ألف دولار ممّا يدفع إلى الحديث عن بداية عهد فنّي جديد، يمكن نَعْته بالفنّ الرقمي، على غرار ما حدث مع الصورة الفوتوغرافيّة وابتكار آلة التصوير الفوتوغرافي في القرن التاسع عشر.

يكشف هذا الواقع كيف أنّ حياتنا، تتغيّر، يوماً بعد يوم، في مختلف المجالات والحقول (التعليم والطبّ والفلك وصناعة الطيران والأسلحة...)، بفعل "الذكاء الاصطناعي"، هذه التسمية التي لم تكن معروفة قبل الخمسينات من القرن الماضي. غير أنّ مسار هذا التحوّل بدأ منذ زمن طويل وأخذ يتأكّد مع الثورة التكنولوجيّة والتقنيّة. وإذا كانت الوسائل الأولى المبتكَرة تشكّل امتداداً لجسد الإنسان: المجهر والمُكَبِّر امتداد لبصره، الهاتف امتداد لصوته، والمحراث والسيف امتداد لذراعه، فإنّ التطوّر الحاصل اليوم، مع المنظومات الرقميّة الجديدة، يذهب أبعد من ذلك ويمسّ ذاكرة الإنسان وتفكيره وتطلّعاته البعيدة.

كلّ شيء يبدأ في المخيّلة ويتبرعَم في الحلم، ثمّ يتحقّق الحلم، شيئاً فشيئاً، على المستوى التقني. لقد ابتكر الإنسان الأسطورة ثمّ عمل على تحويلها إلى واقع. بعض الأساطير وُلدت من حاجة الإنسان إلى التجاوز وتخطّي إمكاناته المحدودة وتوسيع الآفاق من حوله. في الأسطورة الشهيرة، يهرب إيكار من قَدَره لكنه يموت لأنه يقترب من الشمس بينما كان يطير بجناحين من شمع وريش.

لم يملك الإنسان أجنحة كالطيور، لكنّه ابتكر ما يوازيها ممّا سمح له بالطيران والتحليق أبعد بكثير مما يستطيع أن يفعله أيّ جنس من الطيور. وفي حين نسمع صوت بدر شاكر السيّاب آتياً من جسد العراق الجريح: "إيكارُ يمسّحُ بالشمسِ/ ريشاتِ النسرِ وينطلق"، تعود بنا الذاكرة إلى الشاعرة اليونانية صافو التي أنشدَت منذ 2600 سنة: "لو أستطيع أن ألمس السماء بذراعيّ". وما عبَّرت عنه هذه الشاعرة هو أيضاً التوق إلى اختراق المجهول وبلوغ السـماء، كـما حلم إيكار في الأسطورة.

أدب الخيال العلمي يمزج بين الخيال والحقائق العلمية والرؤية التي تستشرف الأحداث المحتملة في المستقبل، منذ جول فيرن وهـ. ج. ويلز حتى أيامنا هذه حيث تتكاثر النصوص الأدبية والأفلام السينمائية التي تواكب التقدّم التكنولوجي، وهي تحكي عن تصنيع الإنسان بين الأسطورة والعلم، وعن الصراع بين الإنسانية ومخلوقاتها الاصطناعية، وما يرافقها من اندهاش وخوف. الخوف من أن تكتسب الروبوتات قوّة عقلية تتفوّق على قوّة مبتكريها. وهذا ما تجلّى في أحد الأمثلة المبكّرة لروايات الخيال العلمي (العام 1818) مع رواية "فرانكنشتاين أو بروميثيوس هذا العصر" للروائية الإنكليزية ماري شيلي.

من كتب الخيال العلمي إلى الكتب العلميّة المحضة التي تتناول "الإنسان المَزيد" وتستشرف المرحلة "الما بعد إنسانيّة" انطلاقاً ممّا تحقّقه النانو تكنولوجيا والبيو تكنولوجيا والعلوم المعرفيّة، وما أصبح أمراً واقعاً اليوم. من عناوين هذه الكتب: "هل لا يزال المستقبل في حاجة إلينا؟"، "كيف ستتغيّر الإنسانيّة مع الطبّ المُمَكنَن"، "في ما وراء حدودنا البيولوجية".

بعض الكتب يتطرّق إلى إنجازات التهجين التي تمزج بين أنظمة بيولوجية وأنظمة تكنولوجية داخل الجسم البشري، ومنها، على سبيل المثال، أجهزة ضبط نبض القلب، الأعضاء الاصطناعية للسمع، الأقطاب الكهربائية المزروعة في شبكية العين للمصابين باعتلال الشبكية الصباغي، تكنولوجيات التحفـيز العميق للدمـاغ في حالات الغيبوبة وأمراض الباركنسون والألزهايمر... في القرن التاسع عشر، ظنّ بعض الفلاسفة والعلماء أنّ الاكتشافات العلمية ستؤدّي، أخيراً، إلى التخلّص من البربرية التي طبعت حياة البشر، وستساعد على الوصول إلى شاطئ الأمان. لكنّ الواقع أظهرَ عكس ذلك، إذ شهد القرن العشرون الكثير من المآسي التي سبّبتها الحروب واستعمال القنبلة النوويّة لأوّل مرّة في التاريخ، والمزيد من استغلال الإنسان للإنسان، وصعود نزعات التطرّف والتعصّب الديني، واستباحة الطبيعة، مع الانتصار الكلّي للاقتصاد والتخلّي عن أيّ مشروع سياسي إنساني. وهذا ما يضع العالم أمام مخاطر وتحدّيات وآلام جديدة.

والسؤال المطروح اليوم: من سيكون المستفيد من تحقيق "الإنسان المَزيد" الذي تغلّب على ضعفه وهشاشته، البشريّة جمعاء أم فئة محدّدة تستأثر بالسلطة وتتحكّم بها؟ سؤال يستتبع أسئلة أخرى منها: هل ستتحوّل السعادة المنشودة، مرّةً أخرى، إلى نقيض ما تنادي به؟ هل يستقيم "التحوُّل الإنساني" قبل تحسين مفهوم العيش المشترك بين البشر ومعالجة موضوع المساواة والتحدّيات المفروضة على المجتمعات الحديثة المفرطة في الفردية، الغارقة في الرأسمالية والليبرالية الجديدة؟ قد تكون عبارة الكاتب الفرنسي فرنسوا رابليه، الذي عاش بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر، مدخلاً إلى الجواب: "العلم من دون ضمير ما هو إلاّ خراب للرّوح".


MISS 3