هاورد فرانش

القوى الإمبريالية لم تسرق التحف الفنية والآثار من أفريقيا فحسب، بل سلبتها مستقبلها أيضاً...

ما الذي سرقته أوروبا من أفريقيا؟

14 شباط 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

منحوتات برونزية تعود إلى مملكة بنين سابقاً أي نيجيريا اليوم في متحف كواي برانلي في باريس | فرنسا، ٢٠٢٢

القوى الإمبريالية لم تسرق التحف الفنية والآثار من أفريقيا فحسب، بل سلبتها مستقبلها أيضاً...

بعد عقود من الرفض والإنكار، شهدت السنة الماضية سلسلة من التصريحات الصادرة عن البلدان الغربية ومتاحفها ذات التمويل الضخم حول استعدادها للبدء بإعادة التحف الفنية التي تمت مصادرتها أو إخراجها سرّاً من أفريقيا في آخر قرن ونصف.

تلاحقت في هذا الموسم المؤسسات التي اعترف فيها المديرون علناً بالمشاكل المرتبطة بمتابعة امتلاك التراث الثقافي القيّم الذي يعود إلى قارّة تعرّضت للاستعمار سابقاً، بدءاً من مؤسسة "سميثسونيان" في العاصمة واشنطن وصولاً إلى متحف "المتروبوليتان" في نيويورك، فضلاً عن مجموعة أخرى من المؤسسات في بريطانيا وأوروبا.

من ناحية معينة، يبدو أن هذه الحركة المستجدّة لا تشتقّ بكل بساطة من تصريح صادر عن عاصمة أوروبية أو زيارة قامت بها وفود من المتاحف، بل إنها ترتبط أيضاً بوصول وفد رسمي من الحكومة الألمانية إلى نيجيريا وهو يحمل 20 قطعة من "برونزيات بنين". تكلم أحد المسؤولين على قناع يعود إلى شخصية الملكة الأم من إمبراطورية بنين السابقة في غرب أفريقيا، فقال: "لقد عاد إلى حيث ينتمي".

لكن يبدو أن هذه الخطوات التي تهدف إلى تحقيق العدالة والتصالح مع الماضي المريع بدأت للتو. بعبارة أخرى، تبقى إعادة القطع الفنية القيّمة خطوة ضرورية، ولو أنها غير مكتملة، لكنها أسهل جزء من هذه الحملة المستجدة.

لم يفكر أحد يوماً بإعادة تحليل الظروف التي سمحت بنهب التراث الثقافي الأفريقي وتحديد علاقتها بمظاهر الفقر والضعف وغياب الاستقرار في هذه القارة. إنه محور كتابي الجديد Born in Blackness: Africa, Africans, and the Making of the Modern World, 1471 to the Second World War (مولود في السواد: أفريقيا، والأفارقة، وصناعة العالم الحديث، بين العام 1471 والحرب العالمية الثانية). يُركّز هذا الكتاب على الجانب الديموغرافي، أي التداعيات التي واجهتها أفريقيا نتيجة استغلال أعداد هائلة من البشر للقيام بأعمال تُدِرّ الثروات للغرب عن طريق العبودية.

قد يكون التوصّل إلى استنتاجات جازمة حول هذه المسألة هدفاً صعباً أو حتى مستحيلاً. لكن توضح المعلومات التي نعرفها حتى الآن أن أفريقيا تعرّضت لهجمة ديموغرافية مدمّرة حين كان العالم منشغلاً بدمج كامل أجزائه للمرة الأولى في تاريخه.

نعرف مثلاً أن حوالى 12.5 مليون أفريقي تم شحنهم بالأغلال عبر المحيط الأطلسي نحو الأميركيتَين، وكان معظمهم محكوماً بالعمل في المزارع. اختير هؤلاء الأشخاص لأنهم كانوا في ذروة نشاطهم الجسدي والإنجابي. نتيجةً لذلك، خسرت أفريقيا قوتهم في سوق العمل وإنتاجية أولادهم المحتملين بطريقة لا رجعة عنها، فنشأ شكل من الفقر الجماعي الذي يرفض الكثيرون الاعتراف به حتى الآن.

يُضاف إلى هذه المشكلة عدد من قُتِلوا في خضم الفوضى التي تعمّد الأوروبيون إحداثها في أفريقيا لمتابعة نشاطات الاتجار بالبشر، فضلاً عن معدلات الوفيات المريعة على متن سفن العبيد التي تحوّلت إلى مقابر عائمة. وفق تقديرات معيّنة واردة في الكتاب، نجا 42% فقط من الأفارقة الذين وقعوا ضحية الاتجار بالبشر العابر للقارات لفترة تكفي لبيعهم في "العالم الجديد".

إذا افترضنا أن أفريقيا خسرت 25 مليون شخص بسبب هذه الممارسات (قد يكون هذا العدد أقل من الرقم الحقيقي بكثير)، يجب أن يُحتسَب ذلك الرقم مع التقديرات المرتبطة بمجموع السكان في القارة الأفريقية في ذروة حقبة تجارة الرقيق. تصل هذه التقديرات إلى 100 مليون شخص تقريباً في القرن الثامن عشر.

كانت هذه الضربة التي لا يعترف بها أحد مدمّرة لأفريقيا حتماً، لكن لجأ الغرب على الأرجح إلى أساليب أخرى لكبح نمو أفريقيا، واستمرّت هذه الممارسات إلى ما بعد القرون الطويلة التي شهدت تجارة الرقيق. اتّخذ تواصل أوروبا مع أفريقيا منحىً مختلفاً في برلين قبل فترة قصيرة من نهاية القرن التاسع عشر وبطرقٍ تعيدنا مباشرةً إلى مسألة سرقة الآثار.

خلال مؤتمر شهير في تلك المدينة الألمانية بين العامين 1884 و1885، قسّمت القوى الإمبريالية الكبرى في تلك الحقبة القارة الأفريقية لتحقيق غايات لا ترتبط بالعبودية التي كانت في طريقها إلى الزوال، بل لفرض سيطرتها السياسية، والاستحواذ على الموارد، وإنشاء أسواق للسلع المتدفّقة من اقتصاداتها التي أصبحت صناعية للتو بطريقة تصبّ في مصلحتها.

في هذا السياق، تكتب المؤرخة بريندا بلامر: "القوى العظمى في برلين أعطت نفسها تفويضاً مطلقاً لتنفيذ غزوات عسكرية. بعد فترة قصيرة، هزمت فرنسا داهومي (1893)، وإمبراطورية بنين (1897)، وإمبراطورية آشانتي (1895-1900). ترافقت هذه الحروب مع سرقة كنوز أصلية وأول استعمال واسع النطاق للأسلحة الرشاشة. خسر الملك المحارب ساموري توري من ماندينغو أمام فرنسا في العام 1898، وأدّت الحملات العقابية الألمانية ضد ثورة الماجي ماجي في تنجانيقا، بين العامين 1905 و1907، إلى مقتل 120 ألف أفريقي. في خضم هذه الحملة التي بدت أشبه بتدريبات لتدمير يهود أوروبا خلال الجيل اللاحق، كادت القوات الألمانية في جنوب غرب أفريقيا [دولة ناميبيا المستقلة اليوم] أن تبيد قبائل الهيريرو والهوتنتوت. في دولة الكونغو الحرة والخاصة بقيادة الملك ليوبولد، قُطِعت ذراع كل أفريقي رفض السخرة في حقول المطاط".

كم شخص في الغرب يعرف أي معلومة عن قبيلة الهوتنتوت، أو يعلم أن الأعمال الوحشية التي ارتكبها ليوبولد لتحويل بلجيكا إلى بلد غني قتلت حوالى 10 ملايين أفريقي؟ تكمن المفارقة في احتمال أن يخفي التركيز على هذا النوع من الخسائر البشرية، وهو أمر ضروري وطال انتظاره، مسألة أكثر أهمية ترتبط بجزء كبير من القطع الفنية الأفريقية المفقودة. بدأ الهجوم الإمبريالي الأوروبي الواسع ضد أفريقيا بعد مؤتمر برلين، وكان يهدف إلى إبادة الإمبراطوريات الأفريقية عمداً خلال مرحلة مفصلية كان يُفترض أن تشهد نشوء دول حديثة.

تزامناً مع تنفيذ هذه الخطط، حاول الأوروبيون تبرير تصرفاتهم وبذلوا جهوداً كبرى لإظهار أفريقيا بصورة القارة الرجعية والهمجية. يكفي أن نفكر بشخصية طرزان التي كانت نتاجاً مباشراً لتلك الحقبة. عملياً، كانت دول أفريقية عدة مثل بنين، وآشانتي، والكونغو، تعمل على ترسيخ تقاليد النظام والحُكم بطريقة متطورة في معظم الحالات. في الوقت نفسه، كان جزء كبير من تلك الدول الأصلية متورطاً في حروب توسعية، على غرار ما كانت الدول الأوروبية تفعله في القرون الأخيرة، بهدف إنشاء كتل سياسية قوية وترسيخ مكانتها.

كنتُ قد كتبتُ في كتابي الأول، A Continent for the Taking: The Tragedy and Hope of Africa (قارة معرّضة للاستغلال: المآسي والآمال في أفريقيا)، أن القارة الأفريقية كانت لتتخذ شكلاً مختلفاً جداً اليوم لو استمرّت تلك النزعة من دون أن تعيقها الإمبريالية الأوروبية: ما كانت القارة لتتألف حينها من 54 دولة متشابهة من تصميم الدول الخارجية، حيث يبدو معظمها صغيراً أو غير ساحلي. يسهل أن نتخيل أيضاً تراجع الاختلالات السياسية في هذه القارة لأن شعوب أفريقيا كانت لتحصل على المساحة الكافية لتصميم مقاربتها الخاصة أو تعميقها وفرض ترتيبات مؤسسية مناسبة لحُكم نفسها.

قد تكون غانا من أكثر النماذج اللافتة لإثبات ما كانت القارة لتصل إليه في ظروف مختلفة، فقد نشأت هناك كونفدرالية واسعة على يد مجموعة "فانتي" العرقية في العام 1868، ما أدى إلى صياغة دستور أصلي اتضح شكله النهائي في العام 1871. هذه الترتيبات الذاتية أنتجت رئيساً ملكاً، ومجلساً للملوك والشيوخ، وجمعية وطنية. كان البريطانيون والهولنديون والدنماركيون يحملون مصالح اقتصادية مهمة في تلك المنطقة، وقد اعتبروا هذا النوع من الحلول السياسية الخاصة بكل بلد تهديداً لمكاسبهم، لذا بذلوا قصارى جهدهم لإضعاف كل ما يسهّل بناء المؤسسات المحلية.

في ظل هذه الضغوط كلها انهارت "كونفدرالية فانتي"، لكن استمرت أحلام السيادة التي نسجها ذلك الكيان لفترة طويلة في المرحلة اللاحقة. خلال العقود الأولى من القرن العشرين، اجتهد مفكر لامع من "الساحل الذهبي"، اسمه جوزيف إفريم كاسلي هايفورد، لمحاولة توحيد المستعمرات الناطقة باللغة الإنكليزية في غرب أفريقيا عبر نظام حُكم مبني على مؤسسات البلدان الأصلية، انطلاقاً من نموذج "كونفدرالية فانتي". حتى أنه كان مستعداً لإبقاء بلده الأم جزءاً من الإمبراطورية البريطانية وأصرّ على مبدأ الحُكم الذاتي استناداً إلى الأفكار والأنظمة السائدة في كل بلد. لكن رفضت بريطانيا هذا التوجّه طبعاً.

في النهاية، لا يمكن أن نتوقع نتائج أحداث تاريخية لم تتحقق على أرض الواقع. لكن يُفترض أن توضح حملة استرجاع الفنون الأفريقية التي طال انتظارها أن نهب أفريقيا لم يقتصر على الآثار، وبالتالي لا يمكن الاكتفاء بإعادة تلك القطع لتسديد ما يدين به العالم أخلاقياً للقارة الأفريقية.


MISS 3