محمد علي مقلد

نظام التفاهة (10)

إنحطاط الحريرية

14 شباط 2023

02 : 00

لو كان ألان دونو يعرف رفيق الحريري لكان استثنى لبنان في عهده من قائمة أنظمة التفاهة. فقد كان اهتمامه بالكفاءات ورعايته إياها استثنائياً. قال لشباب لبنان وشاباته اطلبوا العلم ولو في الصين وأنا كفيلكم. طلب من المبدعين اللبنانيين أن يوظفوا مواهبهم داخل الوطن أو من أجله. صار رمزاً للاستقرار وأوقف العدّاد الطائفي عند معبر الطائف. على النقيض من نظام التفاهة، استعادت بيروت في أيامه ألقابها، ومنها درّة الشرق، وتوقف اللبنانيون في أربع أرجاء الأرض عن البحث عن وطن بديل.

لم تكن الخصومة معه مبنية على أخطاء اقترفها بل على تفاهات. من اتهمه بملكية شركات وهمية لا يعرف أنّ هذا «درج عرج» من كتاب آليات العمل المصرفي، ومَن استعداه لثروته لم يقرأ في البيان الشيوعي قول ماركس، «إنّ البرجوازية قادرة على إدخال أكثر البلدان تخلفاً إلى حلبة الحضارة»، بل ولم يعترف بأنّ الرأسمالية حضارة، ولا ورد بلا شوك، ومن أخذ عليه مراكمته الدين العام لا يعرف أنّ الاستدانة دليل غنى لا دليل فقر، وأنّ أقوى الاقتصادات في العالم هي أكثرها استدانة. بالدولار، أميركا 31 تريليوناً، ألمانيا 3 تريليون وبريطانيا مثلها، فرنسا 3،3 تريليون، سويسرا 336 ملياراً، بحسب بيانات صندوق النقد الدولي لعام 2022.

سألته في ذروة قوته عن مشروعه السياسي، أجاب حرفياً، في ندوة عامة «وحدة لبنان واستقلاله وسيادته وعروبته وتحريره قبل كل شيء من الاحتلال الإسرائيلي، وإقامة علاقات قوية ومميزة مع سوريا وإقامة علاقات مع كل الدول العربية الصديقة ومع كل دول العالم... العيش المشترك بعيداً عن الطائفية والمذهبية، المساواة أمام القانون، فصل السلطات، الحريات الديموقراطية وحرية الإعلام والكلمة والمثقفين». لم يرد مصطلح الدولة في جوابه، ربما ليس من قاموسه، وربما لأنّه توهم القدرة على بناء الدولة عن طريق النهوض الاقتصادي، وربما لأنّه لم يكن مسموحاً له، على ما قال في جلسة خاصة، أن يعيد بناءها.

نظام الوصاية أكثر خبرة في هذا المجال. أمسك مع أعوانه بمفاصل السياسة وتركوا له الاقتصاد. هو أعاد بناء الحجر والبشر وهم عملوا على تدمير الدولة. استدرك، بعد عقد ونصف، أنّ باب الدخول إلى إعادة البناء هو الدولة، فسقط شهيداً على مذبح السيادة الوطنية.

تركة رفيق الحريري لم تُوزّع بالعدل. وهذا ليس من باب التشكيك بقوانين الأحوال الشخصية المذهبية. ذلك أنّ الإرث السياسي لا يخضع لتلك القوانين. حصة سعد الحريري من الميراث المالي لا تكفي لإدارة الإرث السياسي الضخم الذي تركه والده في دوره الوطني وفي علاقاته العربية والدولية. كان ينبغي أن يعطى الوريث السياسي، كائناً من كان، حصة إضافية من خارج ما تنص عليه قوانين الإرث الشرعية. قاسمته العائلة الغنم وفرضت عليه غرم السباحة وحيداً في بحر مليء بالحيتان أو العيش في غابة عقول ميليشيوية أتقنت السطو على السلطة وعلى المال العام وحمّلت شهيد السيادة وزر فسادها. الإرث الأخلاقي، هو الآخر، لا يخضع لتلك القوانين. كانت العائلة في منتهى السخاء، حين طالبت بكامل حصتها المالية وتخلت لسعد عن ثروة أبيه الأخلاقية مثلما تخلت عن أواصرها بالوطن.

قديماً قيل، انج سعد فقد هلك سُعَيْد. تذكّرها بعض أفراد العائلة، لكن سعد هو الهالك هذه المرة. أما سعيد، كأنه هو القائل «اليوم خمر وغداً أمر»، وراح يسعى لاستعادة ملك أبيه وأخيه، بالتحكم عن بعد ومن خارج الحدود، لكن بعد فوات الأوان.

باغتيال رفيق الحريري وبعونه، من غير تعالى، بدأ الانحدار نحو نظام التفاهة في لبنان.


MISS 3