بشارة شربل

الحريري... والرصيد الضائع

17 شباط 2023

02 : 00

في استقبالات سعد الحريري التالية لزيارة الضريح ما يشبه إجاباتي لسائقي سيارات التاكسي الذين يعرفون ماهية عملي. يسأل الصحافيون أو السياسيون المتوافدون زرافات الى "بيت الوسط" زعيم "المستقبل" عن الأوضاع، فيردُّ بمثل ما ألجأ إليه من عباراتٍ محايدة أو قاطعة للحوار: "الله يساعدنا. انشالله خير".

لا يستطيع سعد الحريري، مهما حاول، الإنفصال عن مجريات الأحداث. هو حرٌّ في خياراته، وأدرى بالظروف التي أمْلَت عليه "تجميد العمل السياسي" والابتعاد. ومع أن بعضها الداخلي المعلوم سببه مهادنته "حزب الله" عبر "ربط النزاع"، فإن جُلَّها بالتأكيد لا يعود الى مجرد اليأس من الاصلاح أو للعقبات التي وضعها في وجهه حلفاء محور إيران.

رغم غيابه المديد لا يزال سعد الحريري أقوى شخصية سنية في لبنان. ميزاته الشخصية قرَّبته من الناس، وإرث والده ما زال ساري المفعول. فالحريري الأب قامة تاريخية استثنائية في القدرة على الإنجاز، وشهادته من أجل "لبنان أولاً" رسَّخت إقامة طويلة له في ضمير طائفته ووجدان كلّ مخلص ومؤمن بحقّ لبنان في التقدّم والحياة.

أثبتَ الحشدُ الذي رافق الحريري حول الضريح في 14 شباط لهفةَ مناصريه وتعلقَهم بشخصه، لكنه أكد في المقابل أن نظرية زعيمهم القائمة على وجوب الانسحاب من العمل السياسي لاستحالة تحقيق أي تقدم هي تبريرٌ غير مبرَّر. أولاً، لأن الحضور أفضل من الغياب حتماً. ثانياً، لأن مَن وُلِّي قيادة الناس في ظرف عصيب يتجنب تركهم "لا معلقين ولا مطلقين". ثالثاً، لأن الطبيعة تأبى الفراغ، ومَن يمتلك جمهوراً عريضاً يدين له بالولاء يُفترض ألا يتركه نهباً لـ"سرايا مقاومة" من هنا و"حزب بعث" من هناك، وهما طرفان نقيضان لـ"تيار المستقبل" القائم على سياسة الاعتدال واحترام الدستور وتأكيد انتماء لبنان الى محيطه العربي.

أما النقطة الأهم التي تشهد على خطأ الانسحاب بالشكل الذي حصل، فهي أنه كان بمقدور تيار الحريري تحقيق الكثير للبنان لو أحسن الانخراط في الانتخابات النيابية انسجاماً مع مبادئ "لبنان أولاً" واستعادة دولة المؤسسات، أو لو أحجم عن بعض التدخلات. نظرة سريعة على حساب الأصوات في المجلس النيابي تؤكد ان كتلةً نيابية وازنة إضافية تستطيع قلب المعادلة لمصلحة رئيس إنقاذي، فكيف إذا امتلكت ناصية الميثاقية المذهبية ومثَّلت سُنة لبنان؟

تحمَّل سعد الحريري بشجاعة شراكته بالمسؤولية عن الانهيار كونه رأسَ عدة حكومات. وما استجابته بالإستقالة تحت ضغط ثورة 17 تشرين إلا نقطة إيجابية في مسار الحريرية السياسية الرافض دائماً أي إراقة للدماء، لكن انسحابه غير المنظم شرذمَ الشارع السني وأخلَّ بالتوازن لمصلحة الممانعة وأفسح في المجال للمتسلقين والانتهازيين، ومعظمهم يدَّعون أن قلوبهم معه فيما سيوفُهم عليه.

عِبرة أخيرة من زيارة سعد القصيرة: كانت "الحريرية السياسية" حاجةً للبلد، من حيث التزامها التحديث والعيش المشترك ونهائية الكيان، ولا شكّ في أنها تتحوّل ضرورةً حين تصون هذا الالتزام الذي يميّز حُكماً بين مَن يريد بناء الدولة ومَن يخطط لإغراقها في تحالفاتٍ تقطع الأمل بصيغة لبنان.