عصر الروبوت... ما مستقبل الذكاء الاصطناعيّ؟

09 : 38

possible minds-
في العام 1955، ابتكر جون ماكارثي مصطلح "الذكاء الاصطناعي" ضمن اقتراح منحة شارك في صياغته مع زميله مارفن مينسكي وفريق من علماء الكمبيوتر، سعياً لتمويل ورشة عمل في كلية "دارتموث" بعد الصيف. أدى اختيارهم للكلمات إلى نشوء خلافات دلالية على مر عقود طويلة ("هل الآلات تفكر؟")، وزادت المخاوف من ظهور روبوتات خبيثة مثل HAL 9000، الكمبيوتر الواعي في فيلم2001:A Space Odyssey (2001: ملحمة الفضاء)، وقاتل "سايبورغ" الذي أدى دوره أرنولد شوارزنيغر في فيلم Terminator (المدمّر). لكن لم يفكّر ماكارثي ومينسكي حينها بما يمكن أن يحصل على المدى البعيد.

لم يكن الرجلان ينويان ابتكار مصطلح جديد، وتردّدا في دعوة نوربرت فينر إلى البرنامج. كان فينر أحد مؤسسي هذا المجال الناشئ وعُرِف بعبقريته منذ صغره، فتخرّج من المدرسة في عمر الرابعة عشرة ونال شهادة دكتوراه في الفلسفة من جامعة "هارفارد" بعد أربع سنوات. لوصف عمله حول اتكال الحيوانات والآلات على آليات الارتجاع للتحكم والتواصل، اختار استعمال مصطلح "السبرانية" المشتق من كلمة يونانية تعني "مدير دفة السفينة". أطلق على كتابه في العام 1948 عنوان Cybernetics (السبرانية)، وبعدما فاجأ الجميع بتحقيقه أعلى المبيعات، بدأ باحثون آخرون يستعملون هذا المصطلح لجعل أجهزة الكمبيوتر تعالج المعلومات كما يفعل الدماغ البشري.

لم يشكك أحد بعبقرية فينر، لكنه كان سريع الغضب ويتفاخر بمعارفه طوال الوقت لدرجة أنه حوّل الصيف في كلية "دارتموث" إلى تجربة مأسوية بكل معنى الكلمة. لذا تجنّب ماكارثي ومينسكي مصطلح فينر لتبرير استبعاده. لم يكن الرجلان يدرسان السبرانية، بل الذكاء الاصطناعي.

لكن لم تقتصر المشكلة على شخصية فينر، بل كان برنامج "دارتموث" يستهدف مزاولي الطب، فيما اتخذت أعمال فينر في السنوات الأخيرة بعداً فلسفياً. منذ نشر كتاب Cybernetics، بدأ هذا الأخير يفكر بالجوانب الاجتماعية والسياسية والأخلاقية للتكنولوجيا، وتوصّل إلى عدد من الاستنتاجات القاتمة. كان قلقاً من وحوش "فرانكشتاين" المؤلفة من أنابيب مفرّغة والمزوّدة بمنطق متطور، ما قد يجعلها تنقلب على مخترعيها يوماً. فكتب في العام 1950: "تأخر الوقت كثيراً وبات الاختيار بين الخير والشر مُلحّاً. يجب أن نوقف تقبيل السوط الذي يجلدنا". عاد فينر وتخلى عن أخطر تحذيراته لاحقاً. لكن بدأ الذكاء الاصطناعي يغزو مختلف جوانب الحياة في المجتمعات المتطورة اليوم، فرجع المفكرون إلى الأسئلة الكبرى التي طرحها فينر منذ أكثر من نصف قرن. في كتاب Possible Minds (العقول المحتملة)، يستكشف 25 مساهماً، بمن فيهم عدد من أبرز الأسماء المعروفة في القطاع، الاحتمالات المذهلة والمعضلات العميقة التي يطرحها الذكاء الاصطناعي. يقدّم الكتاب خريطة مدهشة حول مستقبل الذكاء الاصطناعي المحتمل ويعرض لمحة عن الخيارات الصعبة التي ترافقه. من المتوقع أن يتحدد نوع العلاقات بين البشر والآلات الذكية بحسب ما تفعله المجتمعات للتوفيق بين التحذيرات وسرعة هذا الابتكار، وبين مستوى الدقة وقابلية تفسير الآليات، وبين الخصوصية والأداء. تبدو المخاطر هائلة ولا يمكن إحراز أي تقدم في مجال الذكاء الاصطناعي من دون مواجهة تلك الخيارات.

عقل خاص بالآلات؟

بين الخمسينات والتسعينات، تمحورت معظم ابتكارات الذكاء الاصطناعي حول برمجة أجهزة الكمبيوتر بقواعد مُشفّرة باليد. تستعمل المقاربة الإحصائية في المقابل البيانات لاستخلاص الاستنتاجات بناءً على الاحتمالات المطروحة. بعبارة أخرى، انتقل الذكاء الاصطناعي من محاولة وصف خصائص قطة واحدة، كي يتمكن الكمبيوتر من التعرف عليها في صورة، إلى مدّ نظام الحلول الحسابية بآلاف صور القطط، ما يسمح للكمبيوتر برصد أنماط تفيده. تعود تقنية "التعلم الآلي" هذه إلى الخمسينات، لكنها كانت تقتصر حينها على حالات محدودة. اليوم، تعمل نسختها الموسّعة، أي "التعلّم العميق"، بفعالية استثنائية نظراً إلى التقدم الهائل في معالجة الكمبيوتر وثورة البيانات.

أدى نجاح "التعلم العميق" إلى إعادة إحياء مخاوف فينر من خروج وحوش الكمبيوتر عن السيطرة، وتتمحور أكبر النقاشات في مجال الذكاء الاصطناعي اليوم حول الأمان. لطالما أبدى مؤسس "مايكروسوفت"، بيل غيتس، وعالِم الفيزياء الكونية الراحل ستيفن هوكينغ، قلقهما في هذا الشأن. وخلال مؤتمر في العام 2014، وصف إيلون موسك الرائد في مجال التكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بـ"أداة استدعاء الشيطان". يظن آخرون، من أمثال الباحثَين ستيوارت راسل وماكس تيغمارس، فضلاً عن المهندس جان تالين، أن الذكاء الاصطناعي يطرح تهديداً خطيراً على البشرية ويتطلب انتباهاً فورياً.

ثمة نوعان من الذكاء الاصطناعي: أولاً، يشير الذكاء الاصطناعي العام إلى أنظمة تُفكّر وتُخطط وتتجاوب مثل البشر، كما أنها تتمتع بـ"ذكاء خارق". يعرف هذا النظام معظم المعلومات القائمة ويستطيع معالجتها بسرعة فائقة ولا ينسى أياً منها. لنتخيّل محرك "غوغل" مع عقل خاص به (أو ربما إرادة شخصية!). ثانياً، يشير الذكاء الاصطناعي الضيّق إلى أنظمة تجيد القيام بمهام منفصلة، على غرار السيارات المستقلة، وتكنولوجيا التعرّف على الأصوات، والبرمجيات التي تقوم بتشخيصات طبية عبر تقنيات تصوير متقدمة. يتعلق الخوف من الذكاء الاصطناعي العام باحتمال تطوره من تلقاء نفسه وخروجه عن سيطرة البشر. أما القلق من الذكاء الاصطناعي الضيّق، فيرتبط بفشل مصمّميه في تحديد نواياه بدقة، ما قد يعطي عواقب كارثية.

لا يُجمِع الخبراء أصلاً على إمكانية نشوء الذكاء الاصطناعي العام. لكن يقلق المقتنعون بهذا الاحتمال من وقوع المشاكل إذا لم يلتزم ذلك النظام بالقيم البشرية. كتب عالِم الكمبيوتر ويليام دانيال هيليز في كتاب Possible Minds: "قد يتحوّل البشر إلى مصادر إزعاج صغيرة، على غرار النمل في النزهات. سبق وتخطّت أكثر آلاتنا تعقيداً، مثل الإنترنت، تفاصيل ما يفهمه الإنسان الواحد، ويمكن أن تتجاوز سلوكياتها الناشئة حدود إدراكنا".

وصف راسل الوضع القائم بعبارة "مشكلة الملك ميداس"، في إشارةٍ إلى أسطورة يونانية قديمة عن ملكٍ تحققت أمنيته بتحويل كل ما يلمسه إلى ذهب، قبل أن يدرك أنه لا يستطيع أن يأكل أو يشرب الذهب. تُتَرجَم هذه الفكرة بقدرة نظام الذكاء الاصطناعي العام على أداء معظم المهام الموكلة إليه.

على الطرف الآخر من الجدل، يبدد النقاد تلك المخاوف كلها ويعتبرون المخاطر المطروحة ضئيلة، حتى الآن على الأقل. تبقى أنظمة الذكاء الاصطناعي الراهنة بدائية رغم أجواء التفاؤل والاهتمام المحيطة بها، فقد بدأت للتو تتعرف على الوجوه وتفكّ شيفرة الكلام. لذا يعتبر الباحث أندرو نغ من جامعة "ستانفورد" أن القلق من الذكاء الاصطناعي العام يشبه القلق من "الاكتظاظ السكاني على كوكب المريخ"!

عالم جديد وشجاع

يقول فرانك ويلشيك الفائز بجائزة نوبل في الفيزياء إن احترام العقل البشري والاعتراف بحدوده أبعد ما يكون عن المثالية. يشمل الكتاب في الوقت نفسه انتقاداً سليماً للأداة اللامعة الجديدة. كتب عالِم الكمبيوتر ألكس بنتلاند: "تكون أنظمة الحلول الحسابية الراهنة في مجال التعلم الآلي المشتق من الذكاء الاصطناعي غبية جداً في جوهرها. صحيح أنها فاعلة، لكنها تعمل وفق حسابات محددة".

بالتالي، يمكن اعتبار الذكاء الاصطناعي إيجابياً وسلبياً في آن. إنه ابتكار ذكي لكنه باهت! يمكنه أن ينقذ الحضارة ويدمّر العالم! لكن يتعلق مؤشر العبقرية دوماً بأن يحمل العقل فكرتين متناقضتين في الوقت نفسه!

MISS 3