أدريان كارتنيكي

هل تصبح روسيا دولة أوروبية "طبيعية" يوماً؟

27 شباط 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

ملصق لبوتين يُستخدم كهدف للقنّاصين بالقرب من مقاطعة زولوت | أوكرانيا، 21 كانون الثاني 2022

هل يمكن أن تتحوّل روسيا إلى دولة قومية طبيعية في أحد الأيام، فتحذو حذو البلدان الأوروبية الأخرى والإمبراطوريات السابقة وتتخلى عن المساعي الإمبريالية والحملات الدعائية الشائكة التي امتدّت على 500 سنة؟ بما أن العقلية الإمبريالية لطالما كانت متداخلة مع الحسّ القومي الروسي، من المستبعد أن يحصل هذا التغيير من الداخل. تكمن المفارقة في قدرة الأوكرانيين على إطلاق حملة مستجدّة لإعادة تقييم الهوية الوطنية الروسية من خلال إلحاق هزيمة حاسمة بمركز السلطة الإمبريالية. لن يحصل الروس على فرصة لتعديل أولويات بلدهم، وإبعادها عن الطموحات الإمبريالية، والتركيز على أجندة التطوّر الاقتصادي والاجتماعي والديمقراطي، إلا عن طريق الهزيمة.



مرّ مفهوم الأمة الروسية الذي ركّز على الإصلاح محلياً، بدل الهيمنة على غير الروس، بمرحلة إيجابية قصيرة في آخر أيام الاتحاد السوفياتي. بحلول العام 1990، دعمت مجموعة من السياسيين الإصلاحيين في موسكو، ولينينغراد، ومدن روسية كبرى أخرى، أجندة ليبرالية ووطنية في «حركة روسيا الديمقراطية». طرح قادة الحركة أجندة إصلاحية محلية تهدف إلى كبح الأضرار التي تحمّلها الشعب الروسي طوال 70 سنة بسبب الحُكم الدكتاتوري الشيوعي.

وفي السنوات الأولى التي تلت استقلال البلد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، دعم بوريس يلتسين مفهوم روسيا كوطن للشعب الروسي، وكان يأمل في ربط 15 دولة مستقلة ببعضها بعضاً داخل اتحاد واحد. تعاون يلتسين بطريقة بنّاءة مع الدول غير الروسية المجاورة، واعترف بسيادتها في نهاية المطاف. باستثناء الدعم الروسي للحركات الإنفصالية في جورجيا ومولدوفا اللتين اكتسبتا استقلاليهما حديثاً، تجنّب يلتسين عموماً النزاعات الشائكة على الأراضي خارج الحدود الروسية. نتيجة ذلك، سقطت الرموز والمراجع السوفياتية الخاصة بالإمبراطورية الروسية، وتمّ التركيز على بناء دولة ومؤسسات مدنية، بما في ذلك أحزاب سياسية، ونقابــــات عماليـة، وجماعـات بيئية، وجمعيات ثقافية. وبدل النشيد الوطني السوفياتي، استعملت روسيا «الأغنية الوطنية» للملحّن الكلاسيكي ميخائيل غلينكا، من دون أي كلمات مرافقة.

لكن لم تختفِ القوى الإمبريالية الانتقامية والشوفينية القوية يوماً. كان صوت المعارضة المحافِظة الأقوى في مجلس الدوما الروسي الذي كاد يُسقِط يلتسين في محاولة لإحلال نائب رئيسه ألكسندر روتسكوي، مكانه. كذلك، حافظت الأفكار الإمبريالية على قوتها في الأجهزة الأمنية، وراح تأثيرها يتوسّع تزامناً مع تصاعد الاضطرابات السياسية وسط الأقليات العرقية في روسيا. وعلى وقع المصاعب الاقتصادية التي رافقت العملية الانتقالية الشاقة من الحُكم السوفياتي، انهار نفوذ القوميين الليبراليين وتلاشت شعبيتهم. في المقابل، سمح يلتسين للمتشدّدين الذين يحملون أفكاراً إمبريالية بالعودة إلى مناصب السلطة تدريجياً، وأقنع هؤلاء المتشددون يلتسين بضرورة سحق الانفصاليين في الشيشان بالقوة.

حقق المتشددون الإمبرياليون انتصاراً كاملاً في العام 1999، بعد تعيين فلاديمير بوتين كرئيس وزراء في عهد يلتسين واختياره خَلَفاً له في سدة الرئاسة. سارع بوتين إلى إعادة تعريف روسيا وإيقاظ تَعَلّقها بالعظمة الإمبريالية. في العام 2000، تخلّى بوتين عن النشيد الوطني الذي اعتمده يلتسين، وعاد إلى لحن النشيد السوفياتي، وأضاف كلمات جديدة ذات طابع إمبريالي، واعتبر روسيا «اتحاداً قديماً من الشعوب الشقيقة».

اليوم، يتراجع الزخم القادر على إطلاق حركة وطنية روسية تُركّز على التنمية المحلية. حتى في أوساط بقايا المعارضة، تَقِلّ الأصوات التي تحاول إقناع الروس ببناء مستقبل لهم داخل حدود البلد المتعارف عليها. وحتى الناشط المعتقل ألكسي نافالني الذي عارض الحرب يعتبر شبه جزيرة القرم مُلكاً لروسيا ولا يندم على استعمال شتائم عرقية ضد الأقليات الوطنية في البلد. هو تأسف أيضاً على فصل الأوكرانيين الأرثوذوكس عن موسكو، ويلوم بوتين على تدمير احتمال نشوء «عالم روسي» يمتد إلى ما وراء الحدود الروسية: إنه البناء الإيديولوجي الذي دعمه القوميون الروس اليمينيون المتطرفون واستعمله بوتين وأبواقه الإعلامية لتبرير الحملة الروسية الرامية إلى إلغاء الأمة الأوكرانية. يُركّز نافالني ومعظم المعارضين الروس الآخرين على الحُكم الاستبدادي للدولة واستفحال الفساد، بدل تحديد القيم الأساسية التي يُفترض أن تقوم عليها الهوية الوطنية في حقبة ما بعد الإمبراطورية، بما في ذلك احترام حدود الدول السيادية وخياراتها.

وحــده الانتصار الواضح والصريح الذي يؤكد الهوية الوطنية الأوكرانية يستطيع تسهيل انتقال روسيا إلى الهوية المدنية غير الإمبريالية. ومن خلال إثبات انفصال الأوكرانيين عن الأمة الروسية بالكامل، بدأ الروس يفهمون حقيقة علاقتهم مع الدول الواقعة وراء حدودهم. طرحت مظاهر المقاومة والوحدة الأوكرانية تحديات مستحيلة على الحملة الدعائية الروسية المرتبطة بالعالم الروسي المزعوم. كان الحل الروسي يقضي باعتبار الحرب معركة روسية ضد حلف الناتو وعصابة وهمية من نازيين استولوا على أوكرانيا. لكنّ كل هزيمة في ساحة المعركة على يد الجماعات الأوكرانية التي تتميّز بتنظيمها وحماسها العالي تُضعِف خطاب الكرملين المزيّف.

كان الروس قد غيّروا رأيهم حول الجهات التي تنتمي إلى العالم الروسي الإمبريالي في حالات عدة سابقاً. في القرن التاسع عشر، عندما كانت مناطق بولندا بمعظمها جزءاً من الإمبراطورية الروسية، اعتبر الكرملين البولنديين جماعة تحتاج إلى «الروسنة» على المستويات الثقافية والتعليمية والدينية. وكان الكونت سيرغي أوفاروف، وزير التعليم في الإمبراطورية الروسية بين العامين 1833 و1849، يظن أن البولنديين يمكن تحويلهم إلى روس خلال جيل واحد. لكن بعد سلسلة من حركات التمرد البولندية، استنتجت روسيا أن ضمّ البولنديين بالقوة لن ينجح. تعلّم الروس حينها أن البولنديين يشكّلون أمة منفصلة وغير مستعدّة لخسارة ثقافتها وهويتها، بما يشبه الدرس الذي يتعلّمه الروس اليوم من الأوكرانيين.

ثار الأوكرانيون أيضاً ضد الروس على مرّ تاريخهم، بما في ذلك فترات من القرنَين السابع عشر والثامن عشر. يرتبط مسار مقاومة الأوكرانيين الحُكم الروسي ونيلهم استقلالهم في نهاية المطاف بوجود تاريخ أوكراني منفصل ومتأثر بالغرب وهوية مختلفة عن روسيا منذ قرون. لكن على عكس المقاومة البولندية الشرسة لروسيا، كانت مدة المقاومة الأوكرانية وقوتها غير كافية لمحو أوهام الروس وإقناعهم بأن الأوكرانيين شعب منفصل ذات ثقافة ولغة مختلفتَين. نتيجةً لذلك، لن يتمكن الأوكرانيون من إقناع الروس بأن أوكرانيا ليست روسيا، وهي حقيقة واضحة للأوكرانيين ومعظم الأطراف الأخرى، إلا من خلال الفوز بهذه الحرب.

ركّزت النقاشات المرتبطة بمستقبل روسيا على سيناريوين أساسيَين: إسقاط بوتين واستبداله بقيادة أكثر براغماتية، وانهيار روسيا وتحوّلها إلى دول عدة لأن النظام الاستبدادي وفكرة العدو المشترك ما عادا يستطيعان التغطية على تصدّعاتها الداخلية. لكن لا يضمن أي من هذين السيناريوَين أمناً طويل الأمد لأوكرانيا والدول التي كانت تقع سابقاً في النطاق السوفياتي. لا يمكن أن يشعر أحد بالأمان ضد روسيا إذا لم يتخلَ هذا البلد وشعبه عن العقلية الإمبريالية ويتحوّل إلى دولة قومية أوروبية «طبيعية». يتوق الأوكرانيون إلى العيش بالقرب من دولة روسية عادية حيث يتقبّل المواطنون والحكّام حدود بلدهم وحق أوكرانيا في إقامة دولة خاصة بها.

لكن حتى لو تفوّقت أوكرانيا بفضل المساعدات الغربية، فمن المستبعد أن تتلاشى الغرائز الإمبريالية الروسية بالكامل. غالباً ما يترك انهيار الإمبراطوريات مشاعر بغض راسخة وراءه: يكفي أن ننظر إلى تداعيات خسارة فرنسا للجزائر في العام 1962، إذ يبقى ذلك الحدث نقطة خلافية في الذاكرة الوطنية وسبباً لتحريض اليمين المتطرف. مع ذلك، تتقبّل الدول الإمبريالية سيادة مستعمراتها السابقة، ولو بوتيرة تدريجية. إذا تعثرت روسيا في أوكرانيا، تكثر الأسباب التي تشير إلى اتخاذها هذا المسار في نهاية المطاف. في مطلق الأحوال، يتطلب التخلّي عن الإمبراطورية تكبّد الهزائم.

لكن تبقى الإمبراطورية الروسية مختلفة لسبب آخر. ثمة نوعان من الأنظمة الإمبريالية: إمبراطورية خارجية سابقة وراء حدود البلد، وإمبراطورية داخلية في موسكو تتألف من عشرات (لا مئات) الشعوب غير الروسية التي خضعت للاحتلال والاستعمار. تشمل روسيا جمهوريات دون وطنية ووحدات سياسية أخرى حيث تشكّل جماعة عرقية غير روسية أغلبية واضحة تشمل باشكورتوستان، والشيشان، وداغستان، وإنغوشيتيا، وكالميكيا، وسخا، وتتارستان. وبما أن حل روسيا بالكامل يبقى مستبعداً، يصبح عدد كبير من هذه المناطق (يملك بعضها موارد طبيعية هائلة) مُعدّاً للتعبئة الوطنية، لا سيّما في الأماكن التي يشكّل فيها الروس العرقيون أقلية صغيرة. هذا الوضع قد يرسّخ النزعات الشوفينية داخل الاتحاد الروسي خلال السنوات المقبلة ويسحب الدعم من المعتدلين، والليبراليين، ومعارضي الإمبريالية.

يعتبر بوتين أوكرانيا جزءاً أساسياً من تاريخ روسيا وهويتها منذ وقت طويل، وقد تثبت الأحداث قريباً أنه محق بطرقٍ لا يتوقّعها: قد يصبح الانتصار الذي يجعل أوكرانيا تستعيد سيطرتها على أراضيها وتنجح في الدفاع عن هويتها الوطنية والأوروبية عاملاً محورياً لدفع الروس نحو مسار النمو الطبيعي الذي سلكته شعوب أوروبية أخرى ودول عدة بعد حقبة الاستعمار. من خلال إقناع الروس بتبنّي خطاب وطني مُجرّد من مظاهر الإمبريالية (إنه الخطاب الذي يهدف إلى بناء دولة مدنية ترتكز على هوية وطنية واضحة داخل حدود البلد السيادية)، لن يضمن الأوكرانيون أمنهم وأمن المنطقة فحسب، بل إنهم قد يحسّنون مستقبل روسيا أيضاً.


MISS 3