"نقطة تحوّل اجتماعي"... حلم وحبّ وجرأة وتحدٍّ!

"المحرّمات" تتهاوى أمام الثورة العراقيّة

10 : 07

طالبة ترفع لافتة مناوئة للنظام خلال تظاهرة في البصرة أمس (أ ف ب)

بما لا شكّ فيه أن ثورة "بلاد الرافدين" كسرت الكثير من الحواجز الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة والثقافيّة... ونقلت العراق من مرحلة سوسيو/ثقافيّة إلى أخرى. وبالرغم من أن مسار التغيير شاق وطويل، إلّا أن درب الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة أكملها الثوّار وتجاوزوها بأشواط.

وكاد علي خريبيط (28 عاماً) لا يُصدّق عندما أعلن صديقه فجأة أمام الثوّار في بغداد خطوبته على فتاة تعرّف إليها خلال الثورة التي، إن عجزت حتّى الآن عن اسقاط النظام السياسي المدعوم من طهران، لكنّها نجحت في كسر "محرّمات" عدّة.

ويرى خريبيط، الذي حضر حفل الخطوبة العفوي، أنّ المتظاهرين سجّلوا "هدفاً واحداً" في مرمى السلطة مع استقالة حكومة عادل عبد المهدي. لكن تمّ تكليف شخصيّة من النظام نفسه بتشكيل حكومة جديدة، فيما "حققنا الكثير" اجتماعيّاً.

وفي المجتمع المحافظ الذي تُسيطر عليه إلى حدّ كبير أحزاب دينيّة، أحدثت مشاركة النساء إلى جانب الرجال في التظاهرات، وهتاف الثوّار ضدّ سياسيين بينهم رجال دين، صدمة بين العراقيين الذين لم يكن من الممكن أن يتصوّروا ذلك قبل انطلاق شرارة الثورة في تشرين الأوّل.

وغصّت ساحات الاعتصام خلال الأشهر الماضية بنساء تظاهرنَ وأسعفنَ مصابين وكتبنَ على الجدران ورسمنَ وشوماً على أكتاف وأذرع الشبّان وشاركنَ في حلقات نقاش وحلقات موسيقيّة. وتردّدت عبارات "إلغاء الطبقيّة" و"إزالة الفوارق" و"عدم التمييز" بين الجنسَيْن على ألسنة المحتجّين في ساحات الاعتصام وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، وانتشرت صور الشبّان والشابات من مختلف الفئات الاجتماعيّة وهم يسيرون جنباً إلى جنب ويذرفون الدموع معاً بعد فقدان زملاء لهم في مواجهات قُتِلَ وجرح فيها الآلاف. ويُلخّص أحد مستخدمي "تويتر" واقع التظاهرات في بغداد بالقول: "ساحة التحرير تجعلنا نحلم"، وذلك تعليقاً على وقوع صديقه، سائق عربة "التوك التوك"، في حبّ مسعفة تنتمي إلى عائلة مرموقة.

ويعتبر العراقيّون الفترة الممتدّة بين إعلان الانتصار على تنظيم "داعش" الإرهابي نهاية 2017 وانطلاق ثورة "بلاد الرافدين"، مفصليّة في حياتهم، كونها أتاحت لهم فرصة اختبار العيش في ظلّ استقرار نسبي للمرّة الأولى منذ أربعة عقود. وبحسب أحمد الحداد (32 عاماً)، فإنّ دوامة العنف أدخلت "الجيل الشاب في غيبوبة لسنوات طويلة، لكن الاستقرار فتح أعينهم على حقيقة أن هناك أكثر من النجاة من الموت، كالعيش بكرامة في مجتمع مدني، وكسر التزمّت الاجتماعي، ووقف سطوة الأحزاب الدينيّة".

ولم يكن العراق مرادفاً للتشدّد دوماً. غير أنّ الثورة الإسلاميّة في الجارة إيران العام 1979، والقمع في الداخل أيّام حكم الرئيس السابق صدّام حسين، بحيث لم يكن يحقّ للمواطنين حتّى امتلاك جهاز بثّ فضائي، ثمّ الحروب المذهبيّة والتطرّف، دفعت شريحة واسعة من البلاد نحو التزمّت، بحسب متابعين. وغالباً ما ينشر عراقيّون على وسائل التواصل الاجتماعي صوراً للجامعات العراقيّة وأماكن العمل خلال سبعينات القرن الماضي، تظهر فيها نساء يرتدينَ ملابس متحرّرة برفقة رجال.

وفتحت التظاهرات الصاخبة الأخيرة الباب أمام ما يُشبه "الانقلاب الاجتماعي"، خصوصاً في مدن الجنوب الزراعي المحافظة ذات الغالبيّة الشيعيّة. ففي الديوانيّة (200 كلم جنوب بغداد)، لم تتخيّل المرشدة التربويّة هيام شايع طوال أعوامها الخمسين أن تكون قادرة يوماً على الاختلاط والتعبير عن رأيها في مدينة قلّما تُشاهد فيها المرأة خارج المنزل.

وتقول شايع وهي تقف بالقرب من متظاهرين مرتديةً عباءتها الجنوبيّة السوداء: "تتغيّر قضايا اجتماعيّة كثيرة بشكل مفاجئ وكبير".

بالنسبة إليها، فإنّ الثوّار الذين قُتِلوا في حملة قمع دمويّة أودت بحياة أكثر من 550 شخصاً، ضحّوا "من أجل وطن متحضّر ومدني، لا متخلّف ورجعي".ولم تأتِ كلّ هذه التغييرات من دون مقاومة شرسة من سياسيين وحتّى مواطنين هاجموا مسألة الاختلاط، واتّهموا المتظاهرين بتعاطي المخدّرات وشرب الكحول. وإلى جانب مسألة الاختلاط، منح الزخم الشعبي الكبير عند بداية التظاهرات الحاشدة، الثوّار، الجرأة على انتقاد السلطة بشراسة ورجال دين وشخصيّات أثارت الرهبة لسنوات طويلة، وبينها الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، الذي وُوجِه بسيل من الانتقادات اللاذعة على خلفيّة موقفه المتقلّب من الثورة. ووفق خالد حمزة، وهو مدير مركز أبحاث في بغداد، فإنّ الثورة قادت أيضاً إلى إنهاء "قطيعة كبيرة" بين جيل قديم عايش الحروب والحصار، وجيل شاب يستعجل التغيير والتقدّم في بلد تبلغ فيه نسبة الشباب الذين تقلّ أعمارهم عن 25 سنة حوالى 60 في المئة من نحو 40 مليون نسمة. ويقول الرجل الستيني: "نحن بصدد حراك تلقائي من شريحة من الشباب لم يُتوقّع سابقاً أن تنهض بهكذا مسؤوليّة... لتُنجز مهام كانت أجيالنا غير قادرة على إنجازها". أمّا هبة التي شاركت في تظاهرات البصرة في أقصى الجنوب، فتعتبر أنّ الاحتجاجات الشعبيّة "نقطة تحوّل اجتماعي". وتقول الشابة وقد غطّت نصف وجهها بوشاح خشية التعرّف إليها وملاحقتها، إنّ الثورة "قوّت شخصيّتنا وجعلتنا نُميّز بين الصح والخطأ ونُطالب بحقوقنا". ويرى محمد العجيل أن الوقت الآن هو للعمل على تحقيق "الوحدة تحت مظلّة رؤية جديدة وخطّة تستجيب لاحتياجات العراقيين"، وإن تطلّب ذلك "سنوات". ويُضيف: "ما يحصل كبير جدّاً، لكنّه في الوقت ذاته جديد علينا. لا يُمكن أن نتوقّع أن يحدث كلّ شيء بين ليلة وضحاها".


MISS 3