30 مليون دولار لحجز وزارة "لجهة معيّنة"

بازار "بيع وشراء" مناصب في العراق!

10 : 25

الثوّار يحتمون من القنابل المسيّلة للدموع في "ساحة الخلاني" في بغداد أمس (أ ف ب)

في الوقت الذي تتواصل فيه ثورة العراقيين ضدّ الفساد وسطوة الأحزاب المدعومة من طهران، تُحقّق السلطة القضائيّة في مزاعم قيام أطراف بدفع مبالغ طائلة لقاء "بيع وشراء" وزارات ومناصب في الحكومة العتيدة.

وتُسلّط هذه المزاعم الضوء على الفجوة الواسعة بين القادة السياسيين والقواعد الشعبيّة في البلد الغني بالنفط والمصنّف في المرتبة 16 على لائحة الدول الأكثر فساداً حول العالم.

وأبلغ سياسيّون عن صفقات مماثلة خلال تشكيل الحكومات السابقة، لكن "البازار" يعود إلى الواجهة من جديد بينما يترقّب الشارع ولادة حكومة مستقلّة كما تعهّد رئيس الوزراء المكلّف محمد علاوي، تلبيةً لمطالب "ساحات الثورة" التي قُتِلَ فيها أكثر من 550 شخصاً.

وللمرّة الأولى، أعلنت السلطة القضائيّة أنّها تُجري تحقيقات مع سياسيين عراقيين حول هذه المزاعم التي رافقت ولادة الحكومات الأربع السابقة منذ سقوط نظام صدام حسين العام 2003. وبدأت التحقيقات على اثر تغريدة للمحلّل السياسي ابراهيم الصميدعي، القريب من رئيس الوزراء المكلّف، قال فيها إنّ 30 مليون دولار عُرِضَت عليه من أجل حجز وزارة "لجهة معيّنة". والصميدعي ليس الوحيد الذي ذكر ذلك، فقد نَشَرَ النائب كاظم الصيادي المنتمي إلى لائحة "دولة القانون" بزعامة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، تغريدة في ذات الإطار، ذكر فيها أن وزارات العراق "للبيع"، وكتب: "وزارة النفط بـ10 مليارات (حوالى 8.4 ملايين دولار)، من يشتري؟".

وقامت السلطة القضائيّة بالتحقيق مع الصميدعي، وتسعى إلى رفع الحصانة عن الصيادي بهدف التحقيق معه في المزاعم التي ذكرها، علماً أن العراق خسر في 17 سنة نحو 450 مليار دولار بسبب الفساد المستشري، وفقاً للبرلمان، أي بمعدّل نحو 26 مليار دولار سنويّاً. وبينما يؤكّد علاوي أن حكومته ستكون مستقلّة بشكل كامل، لا تزال القوى السياسيّة تطمع بالهيمنة على المناصب التي تدرّ عليها المال كجزء من موروث اعتادت عليه منذ تغيير النظام العام 2003.

وبحسب المحلّل السياسي هشام الهاشمي، فإنّ السياسيين يتّبعون التكتيكات ذاتها للسيطرة على المناصب على الرغم من التحرّكات الشعبيّة العارمة. وشرح أنّ "سماسرة هذه الملفّات هم من فئتَيْن"، الأولى مكوّنة من نوّاب وشخصيّات قريبة من سياسيين معروفين بفسادهم، تقوم بنقل "السيرة الذاتيّة إلى الفريق المقرّب من المسؤول مقابل مبالغ يُتّفق عليها بين الطامع بالمنصب والسمسار". أمّا الفئة الثانية، فهي "قادة بعض الكتل (النيابيّة) وهم معروف عنهم بيع الوزارات بإحدى طريقتَيْن، إمّا مرّة واحدة مقابل مبلغ مقطوع وإمّا بيعها على أربع دفعات، أي دفعة عن كلّ سنة في الوزارة".

ويُعقّد هذا الأمر المفاوضات حول تشكيل حكومة علاوي، بحيث أنّ الوزير أو الحزب الذي دفع مبالغ طائلة لقاء تولّيه حقيبة في نهاية 2018 لمدّة أربع سنوات على سبيل المثال، لن يُرحّب بسهولة بالخروج من الحكم بعد سنة واحدة فقط. ومع خشية بعض الأحزاب فقدانها مصادر تمويلها والعقود التجاريّة التي تُمّول بها نفسها، يسعى أحد قادة هذه الأحزاب إلى اقناع رئيس الوزراء المكلّف على ابقاء إحدى الوزارات من ضمن حصّته.

وأبلغ مسؤول حزبي وكالة "فرانس برس" بأنّ "زعيم الحزب قال لرئيس الوزراء (المكلّف) إنّ لديه التزامات ماليّة في الوزارة في الوقت الحالي، ولا يُمكن التخلّي عنها في هذه الفترة، وطالبه بتوزير شخص مقرّب منه". ومن هذا المنطلق، أوضح مسؤول حكومي رفيع المستوى أنّ قضيّة تكليف وزراء مستقلّين في هذه المرحلة "مجرّد كذبة ولا يُمكن العمل فيها وسط التهافت الحزبي" على الحصص الوزاريّة، مضيفاً: "الأحزاب قد تقبل بوزراء مستقلّين، لكنّهم بعد ذلك سيلتفّون حول الوزير ويقولون له إنّ هذه الوزارة من حصّتنا وعليك أن تلتزم بما نُمليه عليك من أوامر".

ولا تنحصر سطوة الأحزاب السياسيّة بمنصب الوزير وحده، بل تتخطّى ذلك لتطال هيكليّة وموارد الوزارة كلّها، خصوصاً عبر السيطرة على المناصب المهمّة الأخرى، مثل وكيل الوزير ومدير عام الوزارة، وهي المواقع التي تمرّ عبرها غالبيّة التسهيلات الماليّة. ففي كانون الأوّل الماضي، طلب النائب محمود ملا طلال استجواب وزير الصناعة صالح الجبوري بملفّات تتعلّق بالفساد داخل وزارته، متّهماً إيّاه بمنح عقود لشركة تابعة له. لكن قبل يوم من جلسة الاستجواب، قُبِضَ على النائب نفسه، وهو رئيس اللجنة القانونيّة في البرلمان، بتهمة تقاضي رشوة للتراجع عن الاستجواب، في "كمين" أفادت مصادر بأنّ الوزير دبّره له. وحُكِمَ عليه بالسجن ست سنوات.

وأكّد مسؤول في "هيئة النزاهة الحكوميّة" المكلّفة ملاحقة الفساد، أنّ غالبيّة الأحزاب السياسيّة المُمسكة بالسلطة "لديها لجان اقتصاديّة مهمّتها الحصول على العقود التجاريّة لصالح شركات تابعة لها". ولفت إلى أنّ كلّ وزير حزبي "لديه مجموعة شركات تحصل على العقود الكبرى، والتي عادةً لا تُنجز العمل الخدمي وليس لديها خبرات في مجال الإعمار"، لكنّها "تمنع شركات رصينة من منافستها"، فيما قال سياسي عراقي رفض كشف اسمه: "هناك قوى سياسيّة وتجاريّة تُحاول أن تنفذ إلى الوزارات من خلال صفقات ماليّة"، مضيفاً: "البازار موجود وكبير".

وبعد 17 عاماً من الحكومات المتعاقبة، لا يزال العراق الذي يطفو على بحر من النفط، يفتقر الى الخدمات الأساسيّة كالكهرباء والمياه النظيفة، في موازاة شبه انهيار في النظامَيْن الصحي والتعليمي.