عيسى مخلوف

الصورة مرآة الزمن الحديث

22 شباط 2020

11 : 30

لم يغرق العالم يوماً في بحر الصور كما الحال الآن. هناك أكثر من ثلاثة مليارات صورة تتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي يومياً لدرجة يبدو معها الحيّز الذي تحتلّه الصور كأنّه يكاد يختنق. وهذا يعني أننا نقترب ممّا تخيّله، منذ قرن من الزمن، المفكّر الألماني والتر بنيامين، أي من "الفضاء المسكون بالصور بنسبة مئة في المئة".

لم تحضر الصورة يوماً في حياة البشر كما الحال الآن. والعلاقة مع الصورة لم تكن هي نفسها دائماً بل تغيّرت مع مرور الوقت، من الرسوم التي ظهرت على جدران المغاور، وكانت لها صفة طقوسيّة، إلى الثورات التقنيّة وابتكار آلة التصوير الفوتوغرافي في القرن التاسع عشر. ومنذ ذلك الحين، تتعدّد وسائط نقل الصورة، من شاشة السينما إلى شاشة التلفزيون، ومنهما إلى شاشات الكمبيوتر والهاتف النقّال. نحن نعيش في عالم ينفعل ويتفاعل، أكثر فأكثر، مع ثقافة الصورة التي تقرّب المسافة بين الواقع والمتخيّل.مع الثورة الرقميّة التي طاولت مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والفنية، انتشرت إذاً الصور بقوّة، ومنها الصور الذاتية، "السيلفي"، الظاهرة القائمة بذاتها. هناك ألف مليار صورة تُلتَقَط في العالم سنوياً منها زهاء 40 مليار "سيلفي". وبحسب مجلّة "إيل" الفرنسيّة، تلتقط كيم كارداشيان، صاحبة المؤخّرة الأكثر شهرة على سطح الكرة الأرضيّة، 1200 سيلفي تقريباً في اليوم الواحد. غير أنّ استعمال هذه الطريقة البسيطة في التصوير غذّى عند البعض نرجسيّة متورّمة، فصاروا يرون صورة وجودهم في الشاشات المضيئة، ولا يتوقّفون عن التقاط الصور مخافة أن يختفي أثرهم. هذا فضلاً عن أنّ التهوّر في طريقة التقاط هذا النوع من الصور أدّى إلى وقوع عشرات الحوادث المميتة.الدافع إلى الحديث عن الصور الفوتوغرافيّة الآن هو المعرض المُقام حالياً في متحف "جُو دُوبومْ" في باريس، تحت عنوان "مَتجر الصور الكبير"، بمشاركة عدد من الفنّانين الذين ينتمون إلى جنسيات مختلفة ويعتمدون على تقنيّة التصوير الرقميّ والأفلام كوسائط أساسيّة في أعمالهم الفنّيّة. من هواجس المعرض إلقاء الضوء على التحوّلات التي يشهدها العالم في جميع المجالات، لا سيّما في مجال التبادلات الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك في المجال الفنّي والعلاقة مع الأشياء غير المادّيّة، والمعنى الذي تكتسبه وسائل التعبير الجديدة. إذا كان ابتكار الصورة الفوتوغرافيّة يشكّل محطّة علميّة وتقنيّة مهمّة، فإنّ الصورة الرقميّة هي لحظة حاسمة أخرى في تاريخ التصوير الفوتوغرافي، وهو بمثابة ولادة جديدة له. لكن ثمّة علامات استفهام كثيرة تُطرح اليوم حول ما سينتج عن تدفُّق الصور الذي لا يتوقّف عند حدّ، وحول ما سيؤول إليه هذا المخزون من الصور في الحاضر والمستقبل، وكيف سيكون التعامل معه وتصنيفه وحفظه.

لقد تركت الصورة الفوتوغرافيّة أثرها على النتاجات الأدبية والفنية بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين. أمّا اليوم فلقد أصبحت جزءاً من العمل الفنّي نفسه وجزءاً من الواقع اليومي. الصور التي تصلنا عبر السينما والتلفزيون والإنترنت أو التعبير الفنّي لا تحتاج إلى ترجمة، والقسم الأكبر منها مجّاني، وهذا ما يفسّر أيضاً سهولة انتشارها الكونيّ واستهلاكها. لكن المشكلة في هذه الصور على العموم أنّها تقدّم لنا صورة مجتزأة عن الواقع. تنقل الواقع في لحظته الآنيّة وتعزله عن سياقه التاريخي العامّ.

يلاحظ بعض الباحثين أيضاً خطورة القصف العشوائي المتواصل بالصور خصوصاً لدى الأطفال وما يتركه من أثر سلبي على تركيزهم وعلى مسارهم العلمي بأكمله. صورة الحرب والمجازر تغطّيها صورة الحبّ، وصورة الفقراء في إحدى الضواحي البائسة تغطّيها صورة الأثرياء ومآدبهم وأعراسهم، وصورة سباق السيارات تليها عروض الأزياء... صور يأكل بعضها بعضاً ولا تترك المجال للمراجعة والتقويم أو للسؤال عمّا يجري حولنا. ليس جديداً القول إنّنا نعيش في عصر الصورة. لكن، هل يعني ذلك أنّ هذا الكمّ الهائل من الصور ينقل الواقع بصورة موضوعيّة، وهل يجعلنا أكثر انفتاحاً على العالم وهمومه وقضاياه؟ ألا نشهد على تفاوت كبير بين هذا الانفتاح الظاهري على الخارج، عبر الصورة الوافدة إلينا، واكتفاء عين المُشاهد بمحيطها الضيّق والمحدود؟ أخيراً، ونتبنّى، هنا، صيغة السؤال التي يستعملها المفكّر الفرنسي ريجيس دوبريه في كتابه "حياة الصورة وموتها": "هل هي مصادفة أن يكون الشعب الأكثر علاقة بالتلفزيون، أي الشعب الأميركي، هو في الوقت نفسه الشعب الأكثر انغلاقاً والأقلّ معرفة بما يجري حوله في العالم؟".


MISS 3