سكان إيطاليا... تعساء؟

11 : 31

هل يُعقَل أن يكون سكان بلدٍ يحسده العالم أجمع على "روحه الإيطالية" وحيويته وأناقته وثقافته تعساء في أعماقهم؟ يعبّر كل شخصَين تقريباً في إيطاليا عن هذا الشعور، وهو أعلى معدل في أوروبا! بين ممر "برينر" في أقصى الشمال وجزيرة "لامبيدوسا" في الجنوب، يتقاسم الناس مشاعر الوحدة والإهمال. يخشى ثلثا السكان خسارة وظائفهم. يشهد متوسط العمر المتوقع ارتفاعاً متزايداً في هذا البلد، لكن تسجّل معدلات الولادة في المقابل هبوطاً قياسياً.


يتراجع تأييد الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي إلى أدنى المستويات في إيطاليا، حتى أنه أقل من بريطانيا نفسها! تضاعف عدد الأكاديميين الشباب الذين ينتقدون بلدهم خلال عشر سنوات فقط، ويعبّر جزء منهم عن استياء متزايد من الوضع القائم، بينما يتجاوز موقف البعض الآخر حدود الغضب العادي وفق استطلاعات أجراها معهد "سانسيس". وبحسب نتائجه أيضاً، يُعتبر الأجانب والأقليات اليوم كبش محرقة أكثر من أي وقت مضى. لكن ما سبب هذا الوضع؟ بعد ست سنوات على وصولي إلى إيطاليا كمراسل أجنبي ونشوء ثلاث حكومات فاشلة خلال هذه الفترة، انطلقتُ في رحلة شاملة بحثاً عن الأجوبة. 


لإطلاق البحث عن أصل المشكلة، تقع أفضل نقطة بداية في المنطقة الإيطالية التي تبلغ فيها البطالة ذروتها وحيث لا يستغل البلد قدراته الفعلية: صقلية.

تقع مدينة "باغيريا" في "مثلث الموت" في غرب صقلية وتُعتبر معقلاً للمافيا، منذ فترة الثمانينات تحديداً، حين استعملت شبكات المجرمين مصنعاً مهجوراً للمسامير لتعذيب وقتل الخصوم قبل تذويب جثثهم بالأسيد.اليوم، لم يعد الناس ينشغلون قبل نشرة الأخبار المسائية بتوقع هوية القتلى. تتراجع أعداد الضحايا راهناً، لكن لا تزال محاولات المافيا للوصول إلى السلطة قوية بالقدر نفسه. يحظى رئيس بلدية "باغيريا" بدعم رئيس صقلية السابق، وهو رجل أمضى خمس سنوات وراء القضبان بتهمة دعم المافيا. في الوقت الراهن، تُعتبر هذه المنطقة الأكثر فقراً في إيطاليا، إذ تبلغ نسبة البطالة فيها 38%.

تشكّل "باغيريا" مثالاً نموذجياً عن السبب الذي يجعل إيطاليا المثقلة بالديون (تسجّل ثالث أعلى ناتج اقتصادي في منطقة اليورو) عالقة في مكانها، كما تكشف العامل الذي يفسّر خوف عدد كبير من السكان من المستقبل. في النهاية، تملك "باغيريا" جميع مكوّنات النجاح، فتتميز بشكلٍ أساسي بساحلها الساحر ومطاعمها التي تقدّم أطباقاً مثل تارتار التونة والمحار وقنافذ البحر.

ومع ذلك، تحتل هذه المدينة المرتبة الأخيرة في إحصاءات العمالة الوطنية. ترتبط هذه السمعة السيئة جزئياً باستمرار سيطرة المافيا على سكان "باغيريا".

يزعم 46% من الإيطاليين أنهم تعساء مع أنهم أفضل حالاً من سكان معظم البلــدان الأوروبية الأخرى مــن حيث حجم الثروات الخاصة ومتوسط العمر المتوقع والطقس المعتدل، لذا يسهل أن نفترض أن هذا التذمر هو نتاج خوف من خسارة شيء معين، إذ يَقِلّ عدد الإيطاليين العابسين في حياتهم اليومية.لكنّ نفورهم العميق من كل ما يتعلق بالدولة، التي تُعتبر على نطاق واسع جشعة ولامبالية، تضاعف منذ بداية الأزمة الاقتصادية في العام 2011. أدت حركة الهجرة عبر البحر الأبيض المتوســط والسلطة الأبوية المزعومة التي تفرضها المفوضية الأوروبية إلى ترسيخ شعور شامل بوجود تهديد خارجي. كتب أندريا كاميليري، كاتب إيطالي من صقلية، يوماً أن المواطن الإيطالي العادي لا يهتم بالعالم الخارجي: "بل يكفيه أن يعرف موقع منزله وكنيسته وحانته ودار بلديته. لا يمتد فضوله إلى ما وراء هذه الأماكن".

يصبّ غياب الاهتمام بمشاكل البلد الحقيقية في مصلحة الشعبويين. ماذا عن جمود الإنتاجية والفساد وعدم استعداد الطبقة الحاكمة للتنحي في الوقت المناسب تمهيداً لوصول جيل أكثر شباباً إلى السلطة في إيطاليا؟ لا يخصص حزب "الرابطة" اليميني بقيادة ماتيو سالفيني ولا حركة "خمس نجوم" وقتاً طويلاً لمعالجة هذه المسائل. فاز الحزبان معاً بأغلبية مطلقة في الانتخابات الأخيرة وحملت هذه النتيجة رسالة يمكن اختصارها بما يلي: يزداد وضع الإيطاليين الفقراء سوءاً مع مرور الوقت من دون أن يرتكبوا أي ذنب. هذا النوع من الحملات الدعائية يشكّل أرضاً خصبة لانتشار مشاعر البغض.

بحسب إحصاءات الاتحاد الأوروبي الرسمية، تُعتبر روما غير قابلة للعيش أكثر من بوخارست في رومانيا أو صوفيا في بلغاريا برأي سكان المدينة.

تبلغ سرعة الرحلة بالقطار المعاصر من روما إلى البندقية 300 كيلومتر في الساعة. يمرّ القطار مباشرةً بين مساحات طبيعية خلابة، بالقرب من مدن مثل فلورنسا وبولونيا وبادوا. يمكننا أن نشاهد معالم ثقافية عمرها مئات السنين عبر النافذة.

عند وصولي إلى محطة القطارات "سانتا لوسيا" في البندقية، تدفق الركاب نحو شوارع ضيقة وصولاً إلى قوارب لنقلهم. بدءاً من شهر تموز المقبل، سيضطر الزوار لدفع رسم تتراوح قيمته بين 3 و10 يورو يومياً للدخول إلى المدينة. لكن لن يتغير شيء بالنسبة إلى مانفريدو دينا وزملائه ومرضاه.

مانفريدو طبيب نفسي ولن يُطلَب من المسافرين إلى البندقية دفع أي رسم دخول إذا كانوا قادمين لتلقي علاج نفسي. إنه واحد من 27 استثناءً على القاعدة الجديدة التي تهدف إلى إبطاء تدفق الزوار إلى المدينة. لكن عملياً، ستزيد هذه الخطوة على الأرجح عائدات المدينة.

يقول دينا: "سكان البندقية مشرقيون في أعماقهم. هم رجال أعمال! بعبارة أخرى، لا أحد هنا يريد إبطاء عجلة السياحة. يمكن اعتبار رئيس البلدية تجسيداً مثالياً لهذه العقلية". جمع هذا الأخير ثروته بفضل وكالة لتأمين وظائف موقتة. وحين سُئل عن المغزى من فرض رسم للدخول إلى المدينة، استعمل مصطلحات مبهمة لكن فصيحة وتكلم عن خطته لتحويل البندقية خلال ثلاث سنوات إلى معرض يقصده الناس مـن أنحاء العالم.لكن حتى الآن، لا يوحي واقع المدينة بأي إنجازات مستقبلية من هذا النوع، إذ يجتاح حوالى 30 مليون سائح البندقية سنوياً. يقتصر عدد المقيمين في وسط المدينة التاريخي اليوم على 53 ألف نسمة.




الحياة في وسط البندقية مكلفة، ويؤدي تدفق السياح إلى رفع الأسعار. لكن تبقى المدينة بحد ذاتها مهجورة. تتابع السفن السياحية جلب السياح إلى الشوارع الضيقة، ويُسمَح للفنادق العائمة والشاسعة حتى الآن بعبور حوض "سان ماركو". يرمز استمرار هذه المظاهر إلى عجز البلد عن اتخاذ القرارات.على بُعد 1500 كلم من "باغيريا" الفقيرة شمالاً، تقع بلدة "سانت ليونارد إن باسيريا". إنها جزء من منطقة "جنوب تيرول" المستقلة التي تشكّل امتداداً سياسياً يختلف بالكامل عن بقية مناطق إيطاليا. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ينحدر جميع حكّام المنطقة بلا استثناء من "حزب الشعب التيرولي الجنوبي". ومنذ العام 1960، اقتصر عدد من تولوا هذا المنصب الأعلى في المنطقة على ثلاثة أشخاص.

في الوقت الراهن، يشغل المحامي أرنو كومباتشر (48 عاماً) هذا المنصب. هو ابن حداد قروي من "فولز أم شليرن". يجلس كومباتشر في مكتبه في "بوزين" ويشعر بفخر شديد لأن منطقة "جنوب تيرول" تحتل المرتبة الأولى في جميع الإحصاءات في إيطاليا، حتى في معدلات الولادة. يقول كومباتشر، وهو أب لسبعة أولاد: "تعكس هذه المعدلات بكل وضوح جواً من التفاؤل".

لا تواجه منطقة "جنوب تيرول" مشكلة البطالة. يضيف كومباتشر: "يتعلق سر نجاحنا بحكمنا الذاتي. نحن نسترجع 90% من ضرائبنا من روما، أو لا نرسلها أصلاً إلى روما". هو يظن أن خصائص محددة من شخصية السكان تؤثر على هذا الوضع: "تتمتع صقلية بحكم ذاتي أيضاً، لكنها لا تستفيد من وضعها كثيراً. لا يعني ذلك أن سكان "جنوب تيرول" هم أفضل من سكان صقلية. لكننا نطبّق مقاربة مختلفة في تعاملنا مع الجمهورية ومع المصلحة العامة. في هذا المكان، يثق الناس بالمحافظة بنسبة 90% وبروما بنسبة 10% فقط".بعبارة أخرى، يرتكز النجاح الحقيقي على التعاون مع الناس والعمل من أجلهم. ينطبق هذا المبدأ أيضاً على منطقة "سانكت ليونارد" التي تشمل 3500 نسمة وتقتصر فيها نسبة البطالة على 1.9%، وهي الأدنى في البلد كله. تقع هذه الجزيرة المزدهرة تحت منحدرات الجبال التي سيقتصر استعمالها على الرعي بدءاً من شهر أيار المقبل، حالما تذوب آخر كمية من الثلج.

لكن ما هي الدروس التي تستطيع بقية المدن الإيطالية، على رأسها صقلية والبندقية وروما، تعلّمها من هذه "الجنّة" المصغّرة؟ يمكنها أن تتعلم توزيع الموارد بحذر واحترام الإرث الذي تركه أسلافها.

يذكر أحدث تقرير أصدره الباحثون في معهد "سانسيس" قبل عيد الميلاد الماضي مباشرةً أن إيطاليا مُهددة بالتحول إلى "مجتمع خائف وعديم الثقة". يؤيد نصف المشاركين في الاستطلاعات الأخيرة وصول "رجل نافذ إلى السلطة"، ما يعني ألا يحتاج بعد الآن إلى موافقة الناخبين أو البرلمان.إنها نتيجة مقلقة! لكن رغم هذه المصاعب كلها، نستطيع أن نأمل دوماً في أن يستعمل الإيطاليون موهبتهم الأسطورية في إدارة الأزمات ببراعة فائقة. ثمة مقولة إيطالية جميلة في الأوقات الصعبة: "لن تؤلمك قدماك حين ترقص"!