بشارة شربل

سلامة الجريح... و"أخلاق العصابة"

17 آذار 2023

02 : 00

تشبه التحقيقات الجارية مع رياض سلامة للتأكد من إساءته إدارة "المصرف المركزي" وتبييضه كسباً غير مشروع تلك الدعوات التي كان يطلقها ميشال عون وسياسيو الممانعة عقب حصول الاغتيالات السياسية بعد انتفاضة الاستقلال في 14 آذار، وفحواها صراخ من طراز: لا تستبقوا التحقيقات واتركوا القضاء يأخذ مجراه!

منطق الأمور أن رياض سلامة وأفراد الشلة الحاكمة ليسوا في موضع الشك والاتهام ليتمتعوا بقرينة البراءة، فما اقترفوه في حق البلاد هو "جرم مشهود" لا يحتاج الى شهود عدول ولا الى تكوين قناعات بل الى تحديد نوع الارتكاب وحجم العقاب.

رغم ذلك يتوجّب علينا تسليم أمرنا للقضاء. وإذ لا نعوِّل على ألاعيب قصر العدل بفعل خضوع معظم قضاته للولاءات الطائفية والسياسية، والتي تمثلت خصوصاً في تعطيل عمل القاضي البيطار و"قبع" التحقيق في جريمة 4 آب، فإن الأمل يبقى معقوداً على الضغط الخارجي الأوروبي و"الإهانات" الرائعة التي تحذر المعنيين من مغبة التحايل لـ"تبييض" ملف سلامة. وهي نجحت حتى الآن في كبح رغبة التحقيق المحلي في التمييع بل في دفع الدولة الى الادعاء على حاكم مصرفها المركزي.

يجب ان يحاكم سلامة بالعدالة التي تفرضها القوانين، لكنه عنوانٌ من عشرات عناوين دولة الفساد العميقة التي تجمع الأضداد وتعبُر الطوائف وتوحِّد أبناء المتصارعين ويسري في ذريتها "اختلاط الأنساب"... ثم فلنتفق على أن سلامة ليس مجرّد "جندي" بسيط في تركيبة السلطة ليقال انه كان مغلوباً على أمره ينفذ قرارات الحكومات ومجالس النواب المتتالية "وما باليد حيلة". سلامة هو الوحيد المحصَّن بلقب "حاكم" وصلاحيات واسعة محَضَه إياها "قانون النقد والتسليف" ليرفع رأسه بكلمة "لا" بدل أن يتحوّل خانعاً منفذاً أوامر السلطة وشريكاً في التربُّح غير المشروع والاختلاس.

نريد ان يحاكَم سلامة علناً أمام كل اللبنانيين ليس للتشفي من شخص، أقل ما فعله هو منح شقيقه عقداً أكسبه 330 مليون دولار ثم استعادها بشيكين مجيَّرين في أحد بنوك لبنان وأساليب أخرى. حقُّهم أن يعرفوا من أرفع مسؤول مالي كيف انتقل من رتبة موظف لدى الجمهورية الى راع لمال المنظومة المتحكمة بها، وكيف وصلنا الى الـ"بونزي"، ولماذا مارس شراء النفوس والضمائر على مدى ثلاثين عاماً وافق خلالها على تثبيت مصطنع لسعر الليرة وعلى سياسات الدعم المستنزِفة للخزينة، وشهد بعين واحدة تهريب الدولارات لمصلحة "قصر المهاجرين" فيما عينُه الثانية على قصر بعبدا.

نحن نعرف، لكن نريده ان يفضح مشغِّليه وشركاءه الكبار في مسار الكذب على اللبنانيين وتطمينهم الى صحة عملتهم ونظامهم المصرفي، فيما كانت حاشيته المقرَّبة تُبلغ عشرات المودعين النافذين قبل ثورة 17 تشرين بضرورة سحب أموالهم من لبنان. وهذا أكيد.

نعلم أن رياض سلامة اليوم في أسوأ أوضاعه. الدول التي أغدقت عليه الجوائز تتبرأ منه وتفتح تحقيقات في فساده وتلاحق مآل أمواله، والسياسيون الذين موَّلوا نفوذهم ونمُّوا ثروات عوائلهم وجماعاتهم بفضل "تسهيلاته" ما عادوا يردُّون على اتصالاته، حتى أنهم تخلّوا عن "أخلاق العصابة" التي تُلزم بالتضامن في الشدائد وانقاذ أول جريح كبير يسقط في قتالهم ضد صندوق النقد والمحاسبة والإصلاح. هؤلاء نتمنى لو يحدِّثنا عن "مآثرهم" ومساهماتهم في الانهيار الكبير لنكتب للأبناء والأحفاد سيرة جمهورية دمرتها منظومة انقلبت على "الطائف" ورهنت سيادة الدولة واستولت على المقدرات وتحكم منذ ثلاثة عقود بقوة "الإفلات من العقاب".