أغاثي ديماريس

أرقام روسيا الرسمية غير جديرة بالثقة

20 آذار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

روسيون ينتظرون دورهم لاستخدام الصرّاف الآلي الخاص بـ Tinkoff Bank في موسكو | روسيا، 2 آذار ٢٠٢٢

لماذا يثق الكثيرون في الغرب ببيانات الحكومات الاستبدادية التي تخوض حرب معلومات؟

يتعلّق أحدث موضوع مثير للجدل بوضع الاقتصاد الروسي والمعلومات التي تنقلها وسائل الإعلام الغربية ومصادر أخرى إلى الرأي العام. حين نقرأ أي مقالة عن الحرب في أوكرانيا في هذه الأيام، سنجد على الأرجح معلومة مفادها أن الاقتصاد الروسي انكمش بنسبة 2% تقريباً في العام 2022، وهو تراجع بسيط يشير إلى ركود معتدل. أصبح هذا الرقم جزءاً من الجدل السياسي المستمر: يظنّ البعض أن تراجع هذه النسبة يثبت قوة الاقتصاد الروسي وفشل العقوبات. ويستعمل البعض الآخر النسبة نفسها للتأكيد على بدء عواقب العقوبات ودعوة البلدان الغربية إلى تشديد تدابيرها. تحمل هذه الآراء المتناقضة قاسماً مشتركاً: هي ترتكز على رقم لا معنى له.

حتى لو كان تراجع الناتج المحلي الإجمالي الذي تذكره روسيا صحيحاً، فمن الواضح أن ثلاثة عوامل رفعت معدّل النموّ الروسي اصطناعياً في العام 2022. أولاً، ينجم مستوى النمو الاقتصادي عن الإنتاج الروسي المكثّف للمعدّات العسكرية. لكن لا يُحسّن إنتاج الدبابات والصواريخ مستوى المعيشة، ولا مفرّ من أن يتدمّر هذا الجزء من الناتج المحلي الإجمالي سريعاً في ساحة المعركة. ثانياً، سجلت عائدات التصدير الروسية ارتفاعاً كبيراً في العام 2022 بسبب زيادة أسعار الطاقة المرتبطة بالحرب. ثالثاً، أدّى الحظر الغربي المفروض على التكنولوجيا وسلع أخرى، تزامناً مع هبوط الطلب الاستهلاكي الروسي، إلى انهيار الواردات التي تراجعت بنسبة 10% تقريباً خلال العام 2022، وفق بيانات روسيا الرسمية.

لكن ثمة عامل أهم من معنى "النمو" الروسي: لا يمكن الوثوق بأرقام الكرملين لأن روسيا جعلت الإحصاءات جزءاً محورياً من حرب المعلومات التي تخوضها. هدف موسكو واضح: هي تريد إقناع الآخرين بأن العقوبات فشلت، ما يعني إضعاف الفريق الذي يعتبر العقوبات أداة أساسية لكبح العدوان الروسي ضد أوكرانيا أو احتوائه. تقوم هذه الاستراتيجية على ثلاث ركائز. يختار الكرملين تخمينات منتقاة تناسب مصالحه الخاصة، فيطرحها على شكل وقائع ولا يذكر أن معظم الخبراء لا يُجمِعون عليها. كذلك، تؤخّر موسكو نشر الإحصاءات التي لا تتماشى مع خطابها. أخيراً، تكون نوعية الأرقام التي تنشرها مشبوهة وغالباً ما تخضع للمراجعة لاحقاً.

شكّلت أحداث الأســـــابيع الأخيرة مثالاً وافياً عن طبيعة هذه الاستراتيجية عملياً. في شهر كانون الثاني، نشر صندوق النقد الدولي تقديرات عن الركود الروسي في العام 2022 كجزءٍ من تقريره حول "آفاق الاقتصاد العالمي". أشارت تقديرات الصندوق إلى انكماش الاقتصاد الروسي بنسبة 2.2% فقط في العام 2022. هذا الرقم فاجأ عدداً كبيراً من خبراء الاقتصاد لأن صندوق النقد الدولي كان أكثر تشاؤماً بكثير بشأن الوضع الاقتصادي الروسي سابقاً، فهو توقّع في بداية الحرب أن يسجّل البلد ركوداً بنسبة 8.5%. يُجمِع الخبراء عموماً على انكماش الاقتصاد الروسي بنسبة 3.2%، أي ما يساوي نصف ما توقّعه صندوق النقد الدولي تقريباً. لهذا السبب، كانت تقديرات الصندوق التي تشير إلى أقل من 2.2% منفصلة عن المعطيات الشاملة، ومع ذلك استعملها ناشرو الحملة الدعائية الروسية كواقع مثبت، ونشرتها أبرز وسائل الإعلام الغربية. وعند انتشار هذا الرقم في كل مكان، افترض معظم الناس أنه صحيح.

أما الركيزة الثانية لحملة التضليل الروسية، فهي ترتبط بتأخير نشر البيانات السلبية. هذا ما حصل تحديداً بعد بضعة أيام على نشر الرقم التفاؤلي من جانب صندوق النقد الدولي، حين أجّلت دائرة الإحصاء الفيدرالية الروسية فجأةً نشر بيانات الناتج المحلي الإجمالي الحقيقية لشهر كانون الأول من العام 2022 وللسنة كلها. وفي ظل غياب أي رقم روسي يمكن الاتكال عليه لمعرفة الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، أخطأ معظم مراقبي الشؤون الروسية حين اعتبروا أن تقديرات صندوق النقد الدولي تشير إلى نسبة الركود الرسمية. وبما أن رقم الصندوق كان أكثر تفاؤلاً من النسبة التي أجمع عليها الخبراء، صبّ هذا الارتباك في مصلحة الكرملين أيضاً. نشرت موسكو أخيراً رقماً واحداً عن مستوى النمو بعد تأجيل مدّته أسبوعين، فأشارت إلى تراجع بنسبة 2.1% في الناتج المحلي الإجمالي على مرّ العام 2022، أي ما يساوي الرقم التفاؤلي الذي نشره صندوق النقد الدولي. لكن لم يتضح بعد النهج الذي استعمله خبراء الإحصاءات الروس للتوصّل إلى هذا الرقم. يستحيل التحقق من هذه النسبة لأنهم لم ينشروا بعد بيانات الناتج المحلي الإجمالي للربع الرابع من العام 2022. عند جمع قطع هذه الأحجية الإحصائية، سنصبح أمام مشهد مثير للفضول: إذا بلغت نسبة الركود على مرّ السنة 2.1%، كما تزعم روسيا، يشير احتساب الأرقام عبر استعمال البيانات المنشورة حول الأرباع الثلاثة الأولى من العام 2022 إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4% تقريباً في الربع الرابع من العام 2022، مقارنةً بالربع الرابع من العام 2021.

إنه وضع ممكن من الناحية النظرية، لكن تشير الأرقام المتاحة حول الاقتصاد الروسي في الربع الرابع من السنة إلى انكماش أكثر حدّة. في كانون الأول 2022، كشفت الإحصاءات الروسية الرسمية أن الإنتاج الصناعي والبيع بالتجزئة سجّلا أكبر تراجع سنوي منذ ثلاث سنوات تقريباً، ما يشير إلى تباطؤ شديد في النشاطات. كذلك، تراجعت أسعار النفط بدرجة هائلة في أواخر العام 2022، وانعكس هذا الوضع سلباً على الصادرات. أخيراً، تحسّنت الواردات الروسية خلال الربع الرابع بعدما بلغت مستويات متدنية جداً في وقتٍ سابق من السنة، فتأثر الناتج المحلي الإجمالي أيضاً.

تشير أكثر السيناريوات الواقعية إلى مراجعة ضمنية لأرقام الناتج المحلي الإجمالي الروسي للعام 2022 لنشر نسبة قريبة من 3% أو حتى 4%، وهو رقم قريب من النسبة التي يُجمِع عليها الخبراء ويبقى أعلى بكثير من أرقام صندوق النقد الدولي والكرملين في الشهر الماضي. تُعتبر مراجعات البيانات شائعة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الاقتصادات المتقدّمة. يتمّ تصحيح أرقام الناتج المحلّي الإجمالي في مناسبات متكرّرة أحياناً قبل اعتبارها دقيقة بما يكفي. لكن حوّلت روسيا هذا النوع من المراجعات إلى معيار بحد ذاته منذ بدء الحرب، فباتت تعديلاتها تفوق ما تقوم به الدول الأخرى بأشواط.

لكن رغم مراجعة البيانات، ستبقى هذه الملحمة مفيدة لروسيا في نهاية المطاف. من يهتمّ بالتحقّق من مراجعة الرقم الأولي ثم يكتب تقريراً جديداً أو ينشر مقالة إعلامية مُعدّلة؟ ومن يفكّر جدّياً بأهمية هذه الأرقام، باستثناء عدد صغير من الخبراء؟ تتعلق المشكلة الأساسية بالنظام المعتمد، وهي تتجاوز أرقام روسيا الاقتصادية المشبوهة. تُعتبر الصين لاعبة ماهرة أخرى في لعبة التضليل الإحصائي أيضاً. (تبدو أرقام الناتج المحلي الإجمالي الرسمية شائبة لدرجة أن يستعمل مراقبو الصين بيانات غير مباشرة مثل استهلاك الكهرباء، وعمليات الشحن عبر سكك الحديد، والإقراض المصرفي، لتقييم النمو الاقتصادي). بالنسبة إلى الكرملين، يعطي تغيير مستوى الركود ضمناً منفعة أخرى: إذا عدّلت روسيا أرقامها للإشارة إلى تراجع أكبر في الناتج المحلي الإجمالي في العام 2022، فستسمح لها هذه الخطوة بزيادة مستوى النمو اصطناعياً في العام 2023. يكون نمو الناتج المحلي الإجمالي بعد فترة من الركود مشابهاً للقفز بالحبال: كلما زاد الهبوط، ستزيد قوة النهوض.

لطالما كان تقييم فاعلية العقوبات شائكاً. عمد الكرملين إلى إخفاء مجموعات البيانات منذ بدء الحرب، بما في ذلك المعطيات التي تتعلّق بالتجارة الخارجية وتشمل معلومات عن وضع قطاع الطاقة في روسيا. يأمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في دعم مزاعمه حول فشل العقوبات من خلال تحويل روسيا إلى صندوق أسود، ما يؤدي إلى إرباك صانعي السياسة الغربية، والصحفيين، والمواطنين. ونظراً إلى اقتناع بوتين بأنه يخوض حرباً وجودية ضد الغرب، قد تبدو مساعيه منطقية. لكن تكمن المشكلة الحقيقية في الدول الغربية: يُفترض أن يأخذ الخبراء ووسائل الإعلام التي تنشر أرقام الركود الروسي الوقت الكافي للتشكيك بالبيانات المتداولة بدل دعم مزاعم الكرملين.


MISS 3