ليس لدى البطريرك بشارة الراعي كتلة نيابية ولا يرأس حزباً سياسياً ولا يمتلك تنظيماً مسلحاً جاهزاً للانتشار في الشوارع . كل ما لديه هو إرث بكركي ودورها التاريخي في السعي لقيام الدولة المستقلة، وسلطتها المعنوية في تصويب بوصلة المصلحة الوطنية العليا. قد يكون لسيد بكركي ميله الخاص نحو مرشح محدد يرغب بوصوله إلى موقع رئاسة الجمهورية، وقد يكون لكل من المطارنة رغبته في شخصية محددة، لكن الجميع يعرف أنّ تلك رغبات يجب أن تبقى في العقول والصدور، وأن تنسحب أمام تحديد الظروف والمواصفات والمقاييس، ظروف البلاد ومواصفات الرئيس المطلوب لمعالجتها ومقاييس المواصفات والقدرات الأخلاقية والسياسية والوطنية.
لم تعيّن بكركي رئيساً في تاريخ الاستقلال ولا في تاريخ الانتداب. ومنذ عهد المتصرفية تمتعت باستقلالية وطنية جعلتها في غالب الأحيان على تصادم مع السلطات المتعاقبة. كانت قيمتها ولا تزال في أن «الجميع بيحكي تركي وبكركي بتحكي الصح».
في تجربة البطريرك صفير مع لوائح المسترئسين، درس تعلمه صفير ودخل في تراث البطريركية الرئاسي. كان النزول عن مبدأ المواصفات ومقتضيات الدستور دعسةً ناقصة لا ينبغي تكرارها مهما كانت الظروف، خصوصاً أنّ الذي يطلب أسماء كان يهرب من هذه المواصفات والمقتضيات ليشرك الصرح الوطني في ألاعيبه، لا ليأخذ برأيه ونصيحته، فيصل في النهاية إلى مبتغاه ويجعل بكركي مجرد موقع عاجز فاقد للقدرة على التأثير ليس في المواضيع الكبرى وإنما في التفاصيل الصغرى .
كان يُفترض أن لا تدخل البطريركية أبداً في لعبة البحث التفصيلي. واجبها ودورها البقاء في موقع السلطة المعنوية الحاسمة وقول الأشياء كما هي ومن دون استئذان. ربما كان الأفضل أن تقرن قولها الحاسم بسلوكيات لا تقوم على فتح الأبواب أمام الجميع، بل على إغلاقها وفتحها أمام شتى انواع السياسيين، حتى يُستجاب لرؤيتها ويتم الالتزام بالدستور ويبقى لبنان دولة الالتزام بالمؤسسات والقوانين.
علينا، وعلى المعنيين، الاعتراف الآن أنّ الدخول في التفاصيل كان مضراً، بل مسيئاً. الدخول في لوائح الأسماء، ثم الدخول في لعبة الأربعة الأقوياء... وأخيراً في دعوة النواب المسيحيين إلى الاجتماع التي انتهت إلى الفشل من دون أن تتحقق.
الآن استُبدلت الدعوة الأخيرة بعزيمةٍ إلى خلوة روحية. كان ذلك اعترافاً مدوياً بالفشل وانسحاباً مرتبكاً من ساحة ليس فيها لبكركي ما تفعله. فليذهب النواب إلى مناجاة ربهم في بيت عنيا، فبكركي باتت تعرف أنهم سيعودون مدججين بالتقوى إلى ارتباطاتهم الفعلية الأقوى من روحانيات تلة حريصا، ومن موجبات دستور الدولة السيدة المستقلة.
