ستيفاني غلينسكي

تركيا تُقيم توازناً شائكاً بين بوتين والغرب

24 آذار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان في قمة قادة منظمة شنغهاي للتعاون في سمرقند | أوزبكستان، 16 أيلول 2022

منذ بداية الغزو الشامل ضد أوكرانيا، قدّمت روسيا حبل نجاة بشرياً ومالياً إلى تركيا، وتلقّت في المقابل مجموعة وافرة من المنافع. على مر السنة الماضية، تدفق الروس إلى تركيا بأعداد هائلة. يقوم الكثيرون بشراء الممتلكات، بينما يأتي آخرون للهرب من التجنيد الإجباري، أو لإخراج مدخراتهم من الاقتصاد الروسي الخاضع للعقوبات في عهد الرئيس فلاديمير بوتين، أو لفتح الشركات هناك. في السنة الماضية وحدها، فتح الروس 1363 شركة جديدة في تركيا. وتستقبل مكاتب الهجرة في أكبر المدن التركية اليوم نسبة هائلة من الروس الذين يحضرون لتقديم طلب إقامة، وقد حصل أكثر من 155 ألف شخص منهم على هذه التصاريح وفق بيانات الحكومة التركية.



رحّبت تركيا واقتصادها بالوافدين الجدد وأموالهم النقدية بشكل عام. من ناحية معينة، غيّر هؤلاء الأشخاص معالم مدن تركية مثل اسطنبول أو أنطاليا، ولو مؤقتاً. ارتفعت الإيجارات بدرجة قياسية، لكن بقيت أسعار الغاز الطبيعي متدنية. كذلك، باتت المقاهي تعجّ بالزوار الروس، حتى أن بعض لوحات الإعلانات تحمل كتابة سيريلية اليوم.

سيكون الحفاظ على العلاقات مع روسيا، أو حتى تعميقها، تزامناً مع حماية مكانة تركيا كواحدة من أبرز أعضاء حلف الناتو، مهمّة شائكة لكن ضرورية للتوفيق بين الطرفَين. تركيا محصورة بين إيران والغرب، وهي تملك حدوداً برّية مع سوريا، وتسيطر على المدخل الوحيد بين البحر الأسود والمحيط، ولديها حدود بحرية مع أوكرانيا وروسيا. منذ بدء الصراع الأخير، نجحت تركيا في تعزيز الجهود العسكرية الأوكرانية تزامناً مع دعم اقتصاد روسيا الغارق في الحرب.

زوّدت تركيا أوكرانيا بالطائرات المسيّرة عبر شواطئها الشمالية، وتُستعمَل هذه المعدات بأفضل الطرق ضد القوات الروسية. كذلك، شارك البلد في التفاوض على اتفاق يسمح بشحن الحبوب الأوكرانية من موانئ البحر الأسود. في الوقت نفسه، زادت تركيا عمليات شراء إمدادات الغاز والنفط الروسية وساهمت جزئياً في حماية موسكو من العقوبات الصارمة.

إنها صفقــــــــة شيطانية بالنســــبة إلى الرئيس التركـــي رجب طيب أردوغان، وهي ترتبـط بحاجاته الجيوسياســــــــية والسياسية والاقتصادية. سيواجه أردوغان أصعب انتخابات في مسيرته على الأرجح في شهر أيار المقبل، وقد يسمح له الدعم الروسي بتحقيق الفوز المنشود.

يقول ألبير كوسكون، مسؤول بارز في "مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي": "روسيا وتركيا يربطهما زواج مصلحة". لكنه ليس زواجاً سهلاً بأي شكل.

في العام 2015، تضررت العلاقات بين البلدين حين أسقطت تركيا طائرة روسية انتهكت مجالها الجوي في جنوب شرق تركيا على الحدود السورية. وفي حزيران 2016، اعتذر أردوغان على ما حصل وأعلن جهوزيته لترميم العلاقات الثنائية. وبعد مرور شهر، عرضت روسيا المساعدة على أردوغان بعد محاولة انقلاب فاشلة في تركيا.

تمنح روسيا فرصاً مفيدة لتركيا لكنها تطرح عليها التهديدات في الوقت نفسه. لن تكون سيطرة روسيا العدائية على المدن الساحلية الأوكرانية في مصلحة تركيا، لكن لن تستفيد هذه الأخيرة أيضاً من نشوء دويلة كردية في شمال سوريا. منذ العام 2014، دعمت الولايات المتحدة المقاتلين الأكراد في شمال سوريا، بينما تزعم تركيا أن الميليشيات الكردية تربطها علاقات وثيقة مع "حزب العمال الكردستاني" السياسي المتطرف، وهو تنظيم تعتبره تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إرهابياً. في غضون ذلك، تنشط روسيا على الطرف الآخر من سوريا دعماً للرئيس السوري بشار الأسد.

لكن لن يكون الدعم التركي لأوكرانيا كفيلاً بتغيير قواعد الحرب. يقول كريم هاس، خبير في الشؤون الروسية في موسكو: "المساعدات العسكرية موجودة طبعاً ويُفترض ألا يستخف بها أحد، لكنها لا تتجاوز خطوط موسكو الحمراء. لا ترسل تركيا الدبابات أو الطائرات المقاتلة مثلاً، بل تلتزم بمستــــوى يقبل به الكرملين".

على الصعيد الاقتصادي، دعمت روسيا اقتصاد تركيا، لا سيما منذ بدء غزوها الشامل لأوكرانيا، عبر إغراق البلد برساميل هائلة، حتى أنها أغفلت عن الدعم التركي العسكري المحدود لكييف. يتفاوض البلدان في الوقت الراهن على تخفيض محتمل لأسعار الغاز، وقد طلبت تركيا من روسيا تأجيل مدفوعات الغاز حتى العام 2024 للاستفادة من إعفاء اقتصادي مؤقّت على الأقل.

لا تزال هذه العلاقة متبادلة المنافع. بالنسبة إلى الكرملين المعزول والخاضع للعقوبات، أصبحت تركيا ملاذاً مالياً آمناً. في السنة الماضية، بلغت قيمة التجارة بين البلدين حوالى 70 مليار دولار، وأصبحت تركيا من أكبر شركاء روسيا التجاريين. في الوقت نفسه، تذكر صحيفة "حرييت" التركية أن مئات الشركات الغربية تسعى إلى التحايل على العقوبات عبر فتح مكاتب لها في تركيا لمتابعة عملياتها التجارية مع روسيا.

قبيل الانتخابات التركية في 14 أيار المقبل، تُعتبر تحركات بوتين لتقوية أردوغان أفضل رهان يستطيع القيام به. يوضح هاس: "لا يملك بوتين أي خيار آخر، ما يعني أنه يطبّق مقاربة براغماتية. قد لا يكون أردوغان شريكاً جديراً بالثقة بالنسبة إلى موسكو في جميع الظروف، لكن لا يملك بوتين خياراً بديلاً أفضل منه للتعاون معه في تركيا وأماكن أخرى، إذ يبدو جميع القادة الآخرين أكثر ولاءً للغرب".

بالنسبة إلى تركيا، تطغى البراغماتية على معظم القرارات أيضاً. على المستويين الجغرافي والعسكري، تطرح تركيا نفسها كجزءٍ من المعسكر الغربي ولطالما كانت حليفة أساسية للغرب. لكن على المستوى الاقتصادي، لا تستطيع تركيا إلا أن تتعاون مع روسيا. يضيف هاس: "إذا أوقفت روسيا إرسال الغاز إلى تركيا، ستقع كارثة كبرى. وإذا انهار الاقتصاد التركي، ستتعثر البنوك الأوروبية أيضاً نظراً إلى حجم القروض التي أخذتها تركيا منها".

لكن على غرار جميع علاقات الزواج، سواء كانت مبنية على المصالح أو اعتبارات أخرى، يتشارك الطرفان تاريخاً طويلاً ويبقيان معرّضَين لخلافات مستقبلية كثيرة. يعتبر أردوغان روسيا واقعاً راسخاً في منطقة البحر الأسود، لا سيما في ظل غياب الولايات المتحدة اقتصادياً وعسكرياً هناك. في هذا السياق، يقول محمد كوجاك، محلل مستقل للشؤون الخارجية في أنقرة: "لقد تكيّف أردوغان مع ابتعاد الولايات المتحدة عن شؤون منطقة البحر الأسود".

مع ذلك، قد تتفوّق العداوات التاريخية والمنافسات الطويلة على التعاون الاقتصادي والسياسي الراهن. يضيف كوجاك: "عالجت تركيا مخاوفها الأمنية الوشيكة والمرتبطة في معظمها بسوريا، نظراً إلى شراكتها مع روسيا، لكنها تُقدّر في الوقت نفسه قيمة انتسابها إلى حلف الناتو وتحالفها الأمني مع الغرب. على المدى الطويل، ستبقى روسيا منافِسة تاريخية لتركيا وتطرح تهديداً على أمنها. هذه الاعتبارات تفوق المنافع الاقتصادية على الأرجح".


MISS 3