في شباط 2016 قرّرت المملكة العربية السعودية، إيقاف المساعدات التي كانت تعهّدت تقديمها إلى لبنان لتسليح الجيش اللبناني عن طريق فرنسا، وقدرها ثلاثة مليارات دولار أميركي، وإيقاف ما تبقّى من مساعدة المليار دولار المخصّصة لقوى الأمن الداخلي اللبناني. هذه القرارات جاءت على خلفية المواقف السياسية والإعلامية التي يعلنها الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله ضد المملكة، ومواقفه المؤيّدة لإيران والمعادية لدول الخليج بشكل عام.
في 29 كانون الأول 2013 أعلن الرئيس ميشال سليمان، أنّ المملكة العربية السعودية قرّرت تقديم مساعدات عسكرية بقيمة ثلاثة مليارات دولار أميركي للجيش اللبناني، وهي الأكبر في تاريخه، وتقوم على شراء أسلحة حديثة وجديدة من فرنسا من ضمن صفقة تتناسب مع حاجاته وتطلعاته وتساعد على تمكينه من تنفيذ مهامه. ونقل يومها سليمان عن الملك السعودي قوله إنّ «شراء الأسلحة سيتمّ من الدولة الفرنسية وبسرعة نظراً للعلاقات التاريخية التي تربطها بلبنان ولعمق علاقات التعاون العسكري بين البلدين». هذه المساعدة العسكرية كانت مدار بحث واتفاق بين خادم الحرمين الشريفين والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند خلال القمة السعودية الفرنسية التي عقدت في التاريخ نفسه في الرياض.
هذا الإعلان صدر بعد يومين على اغتيال وزير المالية الأسبق محمد شطح في وسط بيروت، وهو أتى بعد انتشار الجيش اللبناني في طرابلس لوضع حد لاشتباكات المحاور بين جبل محسن وباب التبانة المرتبطة بالحرب الدائرة في سوريا.
الحرب على المملكة
دأبت المملكة العربية السعودية على تقديم الدعم والمساندة لعدد من الدول العربية والإسلامية ومن بينها لبنان، الذي وقفت إلى جانبه في المراحل الصعبة التي مرّ بها، وساندته من دون تفريق بين طوائفه وفئاته. وكان دعمها للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي حرصاً منها على أمن لبنان واستقراره وسيادته.
ولكن مقابل هذا الدعم كانت المملكة تُقابَل بمواقف لبنانية مناهضة لها على المنابر العربية والإقليمية والدولية، في ظل مصادرة «حزب الله» لقرار الدولة، وتزامن ذلك القرار مع ما حصل في مجلس جامعة الدول العربية وفي منظمة التعاون الإسلامي، عندما لم يصدر عن لبنان موقف يدين الاعتداءات على سفارة المملكة في طهران والقنصلية العامة في مشهد.
إعتبرت المملكة أنّ هذه المواقف مؤسفة وغير مبرَّرة، ولا تنسجم مع العلاقات الأخوية بين البلدين، ولا تراعي مصالحهما، وتتجاهل كل مواقفها التاريخية الداعمة للبنان خلال الأزمات التي واجهته اقتصادياً وسياسياً. ولذلك قامت بمراجعة شاملة لعلاقاتها مع لبنان بما يتناسب مع هذه المواقف ويحمي مصالحها، معتبرة أيضاً أنّ هذه المواقف المعادية لها، لا تعبِّر عن إرادة الشعب اللبناني. وأبدت في الوقت نفسه حرصها على استعادة العلاقة المميزة التي كانت تربطها بلبنان.
بين قرار الدعم وقرار حجبه كانت المملكة انتقلت من عهد إلى عهد. اتُخذ القرار خلال ولاية الملك عبدالله، وعاد عنه الملك سلمان الذي كان تولّى العرش بعد وفاة سلفه في 23 كانون الثاني 2015، وتزامن مع بدء مسيرة الأمير محمد بن سلمان في رئاسة مجلس الوزراء ثم في ولاية العهد ليصير الرجل القوي في المملكة. كان هذا القرار بداية تغيير نمط العلاقة بين المملكة العربية السعودية ولبنان طالما أنّه يُستخدم في الحملات التي يشنّها «حزب الله» عليها. لم تعد المملكة بوارد تقديم خدمات مجانية لبلد تحوّل منصّة للهجوم عليها، لذلك اختارت الإنسحاب حتى لا تتعرّض للإبتزاز. قبل هذا القرار كانت حصلت في أيار 2015 محاولة لاغتيال السفير السعودي في لبنان علي عواض العسيري اضطر بعدها إلى مغادرة لبنان. هذه المواجهة كانت تحصل بينما كان «حزب الله» يتهم المملكة بدعم الثورة في سوريا وكان يريد الضغط عليها في لبنان.
لم يحصل أن انسحبت السعودية من الساحة اللبنانية. حتى عندما أعلنت هذا القرار واتجهت إلى الإبتعاد كانت حاضرة بقوّة وهذا الحضور يتمثّل في هذه المرحلة من خلال موقفها من انتخاب رئيس جديد للجمهورية. لم تدخل المملكة في لعبة الأسماء. أعطت المعايير والمواصفات ووقفت تراقب. دورها مطلوب في عملية الإنقاذ التي يمكن أن تُخرِج لبنان من أزمته، ولكنّها لن تساهم في أي مخرج لا يحقّق هذا الخيار.
عودة إلى الماضي
بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، الذي كان محاولة لاغتيال دورها في لبنان وإبعادها عن التأثير في القرار اللبناني، وبعد حرب تموز 2006، بادرت المملكة وساهمت في عمليات إعادة الإعمار. وكانت المملكة ساهمت بدعم لبنان مالياً بحيث بلغ مجموع القروض والمنح المباشرة التي حصل عليها منها منذ عام 1980 وحتى نهاية 2010 نحو 2.53 مليار دولار، تضاف إليها القروض الواردة من مؤسسات التمويل الإقليمية التي تقدّر بنحو 2.2 مليار دولار، ولكن في النتيجة بقيت تتعرّض للهجومات.
المشكلة بينها وبين «حزب الله» كانت متأتّية بشكل أساسي من موقف «حزب الله» منها ومن دورها في لبنان وفي المنطقة استتباعاً لموقف الجمهورية الإسلامية في إيران التي يتبع لها «الحزب» في مواقفه وخياراته. هذا الموقف العدائي برز منذ قيام الجمهورية الإسلامية وتجلّى في أكثر من مناسبة بأعمال عدائية كان أبرزها تفجيرات أبراج الخبر في المملكة في 25 حزيران 1996 التي قتل فيها 19 جندياً أميركياً من بين الوحدات الأميركية التي كانت تتمركز هناك. وذكّرت بتفجيرات مقرّ المارينز في بيروت في 23 تشرين الأول 1983، خصوصاً أنّ التحقيقات الأميركية والسعودية اتهمت أيضاً «حزب الله» وإيران بالوقوف وراء هذه التفجيرات.
ويذكر في هذا المجال أن القاضية الأميركية لوريتا بريسكا أصدرت حكماً في 22 آذار الحالي يفرض على البنك المركزي الإيراني دفع 1.68 مليار دولار لأسر جنود قُتلوا في ذلك الهجوم. واستندت القاضية إلى قانون اتحادي صدر عام 2019 جرّد البنك المركزي الإيراني من حصانته السيادية من الدعوى القضائية التي سعت إلى إنفاذ حكم ضد إيران بسبب تقديمها دعماً مادياً للمهاجمين.
تجارب رئاسية
سبق للمملكة أن حاولت الدخول إلى استحقاق رئاسة الجمهورية أكثر من مرّة. لم يُسجّل لها دخول مباشر وقوي قبل العام 1976. قبل هذا التاريخ كانت علاقاتها تسري بانسيابية وبشكل طبيعي وإيجابي مع لبنان خلال العهود الرئاسية منذ الإستقلال. وكان لبنان يشكّل بالنسبة إليها الواحة الدائمة للإستقرار حيث سُجِّل خلال هذه المرحلة اعتماد لبنان كمقرّ ثان لأكثر من ملك أو أمير سعودي. صحيح أنه لم يكن لها دور كبير في انتخاب الرئيس الياس سركيس في العام 1976، إلا أنّ دورها الأساسي كان في محاولة دعم عهده لإخراج لبنان من الحرب عبر مؤتمري الرياض والقاهرة، ولكن النظام السوري أجهض هذه المحاولة وانقلب على هذه المقرّرات.
المحاولة الثانية بذلتها السعودية في العام 1982 من خلال استقبال الرئيس بشير الجميل قبيل انتخابه رئيساً للجمهورية للبحث في طريقة دعم حكمه بعد انتخابه، وإرسال الرئيس رفيق الحريري إلى لبنان للمساهمة في عمليات إعادة الإعمار. ولكن النظام السوري أيضاً أجهض هذه المحاولة. وفي العام 1989 كررت السعودية التجربة مع اتفاق الطائف وانتخاب الرئيس رينيه معوض ولكن اغتيال معوض أجهض محاولتها وأعطى النظام السوري فرصة الإنقلاب على هذا الإتفاق.
لم يكن للمملكة دور في انتخاب الياس الهراوي عام 1989 ثم في التمديد له في العام 1995. ولا في انتخاب الرئيس أميل لحود عام 1998، أو التمديد له في العام 2004، ولكنها اتُّهمت مع الرئيس رفيق الحريري بتدبير الإنقلاب على الوصاية السورية في لبنان وعلى سلاح «حزب الله» من خلال دعم القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي والمطالب بسحب الجيش السوري من لبنان ونزع سلاح «حزب الله». رغم ذلك، ورغم اغتيال الرئيس الحريري لم تنسحب المملكة من لبنان.
لم يكن للملكة دور مقرّر في انتخاب الرئيس ميشال سليمان بعد تسوية الدوحة في ايار 2008. عملية 7 أيار التي نفذها «الحزب» كانت انقلاباً عسكرياً على شرعية أكثرية قوى 14 آذار النيابية التي يعتبر «الحزب» أنّ السعودية كانت إلى جانبها. عندما حاولت المملكة الدخول عبر مساعدة الجيش اللبناني، كانت كأنّها ترتكب معصية معاكسة لسير «حزب الله» وطبيعة عمله في لبنان. من هذه الخلفية يمكن فهم الخلاف الذي وقع بين الرئيس سليمان وبين «حزب الله» قبل انتهاء ولايته وحديثه عن الثلاثية الخشبية.
تجربة عون الفاشلة
عملياً أخرجت السعودية نفسها من دائرة التدخل في لبنان منذ الإعلان عن وقف المساعدة للجيش اللبناني. ضمن هذا الجو أتى انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. أعطى عون وعوداً بالإنفتاح على المملكة ولكنّه ظلّ أسير قرار «حزب الله». عهده انتهى إلى خصام كامل مع المملكة نتيجة تسليم القرار بالكامل إلى «الحزب». من هناك يبدأ تعاطي المملكة مع استحقاق الإنتخابات الرئاسية حالياً. قيل إنّها لم تكن مع خيار سليمان فرنجية في العام 2015، وحقيقة موقفها تظهر حالياً تجاه رفض هذا الترشيح على خلفية أنّه لا يحقِّق سيادة لبنان واستعادة قراره. الموقف السعودي تجلى في الورقة العربية التي سلِّمت إلى لبنان وفي البيانات المشتركة السعودية الأميركية الفرنسية قبل لقاء باريس الخماسي الذي لم يتبدّل موقف السعودية فيه ولا تبدّل بعده.
ثمة رهان على تبدّل موقف السعودية بعد الإتفاق بينها وبين إيران بوساطة الصين. ولكن حتى هذا الرهان ساقط عملياً لأنّ النتيجة الأولى له لبنانياً كانت سقوط ترشيح فرنجية بعدما كان الثنائي الشيعي قد رشّحه وخاض معركته قبل أن يترشّح شخصياً.