حسان الزين

روايته الخامسة لم تُنشر في بيروت بسبب "كورونا" والهوموفوبيا والرقابة

هلال شومان: زمننا هو زمن انتصار الحرب لا انتهائها

1 نيسان 2023

02 : 00

هلال شومان صوت مميّز يعمل بدقة وتأنٍّ على نصّه المؤسس على معرفة بالمجتمع اللبناني، وعلى قراءة ناضجة ومؤلمة لما يجري فيه ولاتجاهاته "الانهيارية". وعلى رغم غربته لكونه مهندساً يعمل في مهنة عالمية، تبدو أعماله وثيقة الصلة بلبنان والرواية فيه، من توفيق يوسف عواد مروراً بيوسف حبشي الأشقر إلى جيله الذي يصفه بجيل "زمن انتصار الحرب لا انتهائها".

هكذا، تحضر في الحوار معه هواجس الكتابة التي تدرَّب عليها في مكاتب الصحف ومحترفات الرواية، وأحوال جيله "المشتت" في بلاد العالم، وانعكاسات ذلك على النص والتجربة الإبداعية عموماً. وفيما نتحرى معه علاقة ما يكتبه، وما يكتبه جيله، بـ"الرواية في لبنان"، لا تغيب العلاقة مع التجارب العربية الجديدة وظروف النشر في لبنان.



هل أنت مغترب؟ فأنت مهندس يذهب إلى حيث يجد فرصة عمل في اختصاصه، وهذا غير متوافر حالياً في لبنان، وفي الوقت نفسه أنت روائي وثيق الصلة بلبنان، كيف ذلك؟ كيف "توفّق" بين غربتك كإنسان ومهندس، وابتعادك عن مكان رواياتك؟

أعمل في مجالات هندسية مختلفة. أدى انتقالي إلى دبي في 2012 إلى تركيزي على كتابة الرواية. علاقتي بالبلد ملتبسة كما هي الحال للمقيمين فيه. حتى وأنت داخله، فأنت مغترب عن مكان آخر فيه. هذا شعور متأصل يفرَض عليك منذ الولادة، وتحاول محاربته بطرق مختلفة مع اختلاف المراحل. إضافةً إلى ذلك، أؤمن بأنَّ للكتابة الأدبية عموماً مدخلاً اغترابياً. فمن دون اغتراب، لن أرى، وستبقى كتابتي ملازمة لحيِّز متوقَّع. أتمنى أن يكون اغترابي هذا قد ساعد على إنتاج كتابة مختلفة موضوعاً وأسلوباً.

وأنت بعيد، في كندا، كيف تنظر إلى لبنان، من الأخبار، من الذاكرة، من التحليل السوسيولوجي، وكيف تراه؟

لم أزر لبنان منذ العام 2019، تاريخ هجرتي إلى كندا. أجزم بأنَّ طول المدة غيَّر من علاقتي بالمكان واللغة. ثمة تفاصيل لا يمكن ملاحظتها إلا من الخارج، واهتمامات تخفت، وهذا قد يكون صحياً إذ يقلل من التعرض للتشويش اليومي الذي تفرضه الإقامة في البلد، ولكنه أيضاً مخيف. صلتي بلبنان بدأت تتراجع، واندهاشي لا يتوقف من طريقة سير الأمور على رغم إيماني المبدئي بانعدام صلاحية النظام. البلد في سقوط حر، وهناك قناعة غريبة بأنَّه لن يترَك ليقع. أعتقد أنَّنا ندفع ثمن فشل ثورات 2011 في المنطقة. ولبنان، ككيان هش، سقوطه عبثي ويشبهه.

ما الذي يُحزن هلال شومان، أهو ابتعادك عن بيروت، مثلاً، أم حال لبنان، أم لا شيء من هذا؟

حالي مثل حال أي لبناني يشعر بأنَّ عمره قد سُرِق مضافًا إليه عقدة الناجي. لفيف من الحزن والشعور بالذنب والعجز. أعتقد أن جيلنا إما انكفأ في اتجاه فردانية منعزلة أو استخلص أنَّ استثماره في هذه الفردانية كان سبباً من أسباب فشل الثورات. هذا الجيل يعرف ضمنياً بتوالي التجارب وإخفاقاتها بأنَّ فردانيته هذه لا تنتج أي تغيير في العام، وأنَّ التنظُّم السياسي الذي منعته الأنظمة والجماعات الاستبدادية هو المدخل الوحيد لقلب هذه الحالة.

تنتسب إلى الرواية اللبنانية، أين أنت من هذه السلالة؟

أفضل مصطلح "روائي من لبنان". هناك روايات عن لبنان كتبها أدباء غير لبنانيين (صنع الله ابراهيم)، وهناك روائيون لبنانيون كتبوا عن مواضيع غير لبنانية (الياس خوري). أعني أنَّ هناك رواية مكتوبة بالعربية يكتبها أدباء من جنسيات متعددة حول مواضيع مختلفة، وهناك أجيال من الروائيين اللبنانيين يقدمون كتاباتهم متبعين السياقات السياسية والاجتماعية التي هم جزء منها. من هذا المدخل، يمكن تصنيفي على أني من روائيي ما بعد الحرب، أو حتى من روائيي انهيار صيغة السلم الأهلي الذي بدأ باغتيال رفيق الحريري.

كيف تقرأ مسار الرواية اللبنانية، من توفيق يوسف عواد مروراً بيوسف حبشي الأشقر ورشيد الضعيف وجبور الدويهي والياس خوري وعلوية صبح وهدى بركات ونجوى بركات وحسن داوود وربيع جابر؟

كل روائي هو ابن مرحلته وتجربته. أحاول دائماً أن أدقق في الاختلافات بين الكتابات بين كتَّاب الجيل الواحد. أعجبتُ بـ"طواحين بيروت" لتوفيق يوسف عواد. ربيع جابر في رواياته الحديثة هو الذي حفّزني على العودة إلى قراءة الرواية، وأجده أفضل من كتب رواية "السلم الأهلي". يوسف حبشي الأشقر كان اكتشافاً مبهراً في روايتيه الفلسفيتين "لا تنبت جذور في السماء" و"الظل والصدى". رشيد الضعيف في رواياته أفسح المجال لكتابة متخففة من المعهود اللغوي بالمعنى الإيجابي. أما الياس خوري في تنقله بين روايات "التداعي الحر" وملحمياته الفلسطينية فقد وسَّع الكتابة الروائية نحو مواضيع أقل لبنانوية. علوية صبح في اشتغالها الحكائي النسائي رائدة، وهدى بركات في اقتدارها اللغوي الروائي لا تشبه غيرها. نجوى بركات في رواياتها المركزة والكثيفة عن العنف مدهشة بدقتها، وجبور الدويهي في رواياته شفاف تنير جمله فجأة وتقبض القلب. أما حسن داوود فيقدر بغرابة أن يعيد إنتاج مزاجات الفناء والزوال وتوقف الزمن بشكل مختلف كل مرة.

تبدو الحرب "ثيمة" حاضرة في كتاباتك، وأنت لم تعشها كاملة (مواليد 1982)، لماذا هذا الحضور: تطهري، جاذبية درامية، جاذبية للقارئ والناشر الأجنبيين، وللمزاج الأجنبي، لأن اللبنانيين لم يخرجوا منها بعد ولم يراجعوها،... لماذا؟

ليس ضرورياً أن أعيش الحرب كاملةً كي أشعر بوطأتها وأفهم دورها في إنتاج نظام السلم الأهلي وأمركزها في رواياتي. الحرب لي هي اللحظة التي انفجرت فيها كل المتناقضات الطبقية والجماعاتية، وأجد أن زمننا هو زمن انتصار الحرب لا انتهائها. النظام أعاد إنتاج حالة الفوضى والفساد والطائفية داخله في تسوية هشة من الطبيعي أن تهتز كلما اختلفت موازين القوى وصولاً إلى انهيارها. أما المزاج الأجنبي في انتقاء الترجمات فهو اعتباطي وكسول. باستثناءات بسيطة، فإنَّ معظم الترجمات الحالية تبنى على ترجمات روايات سابقة لجيل روائيي الحرب. لم تترجَم إلا رواية واحدة من رواياتي (ليمبو بيروت) من مدخل الاهتمام الأكاديمي لا النشر العام.





هل أنت تكتب عن اللبنانيين أم عن لبنانيين، عن أفراد أم عن جماعة، شعب (هل يمكن أن نُسقط بحث يوسف في "حزن في قلبي"، عن نفسه وتقفي أثر ماضيه وجذوره، على اللبنانيين، أم هي قصة فرد، شخص، فقط لا غير؟

يوسف، في اغترابه الهوياتي، هو محاولة حيادية ومحفِّزة للدخول إلى النقاش اللبناني، وإعادة استرداد نقاش الذاكرة. أصدقاء يوسف اللبنانيون في الرواية يتوزعون على أكثر من خطاب شأنهم شأن اللبنانيين جميعاً. في رواياتي، أحاول أن لا أقدم كتابة تمثيلية متوقَّعة تشرح الواقع. بهذا المعنى أي رواية جماعة ستكون رواية إقصائية. هناك رواية سياسية؟ بالطبع، لكنَّ السياسة، في فهمي، تنتج من اعترافها بوجود الخطاب المواجه. وقوة الخيال الروائي تكمن في قدرته المستمرة على إنتاج قراءات ومعان مختلفة. باختصار، أجد أن دور الرواية أن تعقّد الأشياء لا أن تبسطها في ثنائية فرد/ جماعة.

يبدو أنك مع أبناء جيلك تدفعون الثمن وفي الوقت نفسه تتكيّفون، على نحو فردي، مع العيش والكتابة والنشر "عالميّاً".

لا نشر عالمياً للكتابة بالعربية. هناك كتّاب عرب أميركيون ينشرون بالإنكليزية من ضمن منظومة النشر الأميركية، ولكن هذا لا ينطبق على رواية "حزن في قلبي" المكتوبة بالعربية. بعض الكتّاب يعيشون في الخارج ويستمرون بالنشر في الدول العربية. أما هؤلاء الممنوعون من النشر في بلدانهم فيلجأون إلى النشر في بلدان عربية أخرى. النشر الذاتي والكتاب الإلكتروني وتطبيقات القراءة قللت من هذه الصعوبات. هناك دائماً منفذ ما.

ما هي علاقتك مع جيلك من الكتّاب العرب، في أوطانهم و"المهجر"؟

يتجاوز عدد أصدقائي الروائيين والقصاصين العرب عدد أصدقائي اللبنانيين. فأنا أنتمي إلى جيل نشر رواياته ومجموعاته القصصية بعد تجارب تدوينية، ومن خلال هذه التجارب تعرفتُ إلى أصدقاء مثل سحر مندور، ورشا عباس، وسارة أبو غزال، وأحمد ناجي، ونائل الطوخي، ومحمد ربيع، وأحمد الزعتري. بعض الأصدقاء مهاجر طوعاً وبعضهم قسراً والآخر مستمر في الإقامة ببلده الأم. في الوقت نفسه، أحاول أن أتابع قدر الإمكان التجارب الجديدة المنشورة لكتّاب آخرين مثل جولان حاجي ورولا الحسين وفوزي ذبيان وأحمد محسن ونغم حيدر وصهيب أيوب ومازن معروف وأحمد عوني وصلاح باديس وأيوب المزيِّن. وأنا معجب دائم بإنتاجات كتَّاب عرب من أجيال أخرى مثل هيثم الورداني وإيمان مرسال.

ما الذي يتميّز به جيلكم عن الأجيال السابقة، تقنياً وأسلوبياً وفي الرؤية إلى الكتابة والرواية والمجتمعات العربية؟

أظن أن تجارب جيلنا تتغير في اهتماماتها باستمرار. مثلًا، بعد العام 2013 أنتج كثيرون منا روايات ديستوبية، ثمَّ أتبعناها بروايات ساخرة. ألاحظ أيضاً أنَّ علاقة جيلنا باللغة تختلف عن علاقة الأجيال السابقة بها، وأننا متخففون لغوياً، وهذا ربما لأنَّ زمننا لم يشهد أي مشاريع قومية جامعة كبرى كانت اللغة في صدارتها.



"حزن في قلبي" ورؤية لبنان من الخارج


واجهت الرواية الخامسة لهلال شومان، "حزن في قلبي"، مشاكل عدة في النشر في بيروت، ما دفعه إلى نشرها في "خان الجنوب" (في ألمانيا).

يكشف شومان أن "أسباب رفض نشر الرواية في لبنان تنوعت بين توقف النشر في فترة "كورونا"، وتراجع القدرة الشرائية، ما حتم التركيز على نشر الكتب القابلة للتوزيع خارج لبنان، والتوجس من المشاهد الجنسية المثلية في الرواية في ظل مناخ الهوموفوبيا والرقابة السائد. عليه، كان النشر لدى "خان الجنوب" في برلين وتوفير الرواية عبر تطبيق أبجد الإلكتروني هو الخيار الأنسب".

ويحاول شومان، في كل رواية أن يفترق عن الرواية السابقة. فروايته الأولى، "ما رواه النوم" (2008) كانت، وفقه، "محاولة لاستكشاف الكتابة الروائية". والرواية الثانية، "نابوليتانا" (2010)، "كانت عن معنى الذكورة الجديدة في عالم السلم الأهلي المنحِّي للشباب، وتعلَّمت فيها التحرير والعمل على البناء الروائي تحت إدارة الروائية نجوى بركات في محترفها الكتابي". والرواية الثالثة، "ليمبو بيروت" (2012)، "ركزت على لحظة تجمع بين شخصيات خمس في أحداث 7 أيار (2008)، مع اختلافات أسلوبية بين فصل وآخر. والرابعة، "كانَ غداً" (2016)، فهي "رواية عن تبعات انهيار لبنان (قبل انهياره الحالي)، وفيها تجريب لأكثر من أسلوب حكائي/ خبري عبر كتابة خطية يشظيها أكثر من مسار سردي". أما "حزن في قلبي" (2022) فهي "محاولة لرؤية البلد من الخارج والعودة إلى نقاش الذاكرة الذي كتمه نظام السلم الأهلي".

MISS 3