حسان الزين

يصرّ على تقديم برنامجه التلفزيوني من "شارع الحمرا"

فراس خليفة: النخب الثقافية مطالبة باستعادة دور بيروت

7 نيسان 2023

02 : 01

فراس خليفة (فضل عيتاني)

لفراس خليفة نكهة خاصّة. فهو ليس مقدّم ومعدّ برنامج تلفزيوني يقيم في الستوديو ويتابع المشهد من بعيد، أو من الخارج. إنّما هو شخص من داخل الثقافة وفي الشارع. وهذا البعد بات ميزة، وميزة نادرة، في زمن لم يعد فيه للثقافة عنوان. وهو ما يجعله، في "شارع الحمرا"، مقاوماً، وإن أخفى الحنين إلى الماضي أو نفاه عن نفسه. هو كذلك لأنه، هناك، في ذاك المكان الذي جذب من كل حدب وصوب متلهّفين إلى الحرية والثقافة، يطارد نشاطاً أو فعالية أو قصيدة أو نَفساً جميلاً، كي يحتفي به. فراس خليفة بهذا المعنى الأيوبي، مثل صيادي شاطئ بيروت، هو أحد حرّاس المدينة والثقافة فيها. ولهذا الإصرار على بقاء الثقافة وشارعها في عاصمة لبنان، ولأمور أخرى، أجرينا معه هذا الحوار.



تواكب بيـــــــــــروت، المدينة والحركة الثقافية، منذ سنوات، ما الذي تغيّر؟

من غيرالطبيعي أن لا تطرأ على بيروت تحوّلات اجتماعية وثقافية ومدينيَّة على وقع الأحداث الكبيرة المتتالية التي أصابت البلد كله منذ سنوات وصولاً إلى الانهيار الشامل الذي نعيشه الآن. مع الوقت ستتظهَّر أكثر معالم وملامح هذا التحوُّل. الانفجار الرهيب في المرفأ أجْهَزَ على المدينة في ما بدا أنّه إسدال الستارة على مرحلة مضت ووظيفة انتهت. أي مدينة في العالم هذه التي يخلو وسطها التجاري من الناس؟ أحياء عديدة منها باتت أشبه بمدينة أشباح. تشهد بيروت الآن، كما البلد، واحدة من أسوأ الفترات التي مرَّت بها على المستويات كلّها. مع ذلك، فإنّ حركة التاريخ لا تتوقف. ربما نحتاج إلى وقت ليس قصيراً قبل ظهور جديد.

والحركة الثقافية؟

لعقود طويلة تميَّزت بيروت بدورها الثقافي. مناخُ الحريّة السائد، هو الذي وسَّع هامش الحراك الثقافي في بيروت التي احتضنت كثيراً من المفكرين والمثقفين والأدباء والفنانين العرب. خفَّ هذا الوهج في العقدين الماضيين مع بروز مدن وعواصم عربية أخرى نافست بيروت وتفوَّقت عليها في عملية "الإنتاج الثقافي"، بالإضافة إلى تبدّلات وتحوّلات في الظروف السياسية والاجتماعية المرافقة. في السنوات الأربع الماضية، تراجع النشاط الثقافي في بيروت بنسبة كبيرة، لا سيما خلال مرحلة كورونا وعقب الانفجار في المرفأ، وقد فاقمت أزمة الدولار وارتفاع الأسعار المشكلة. مرَّة قالت لي الممثلة نضال الأشقر: "مَن يعمل مسرح في هكذا ظروف؟ كيف يمكن ان تدعو الناس إلى المسرح في الوقت اللي ما عندهم مياه وكهربا وحليب؟". معرض بيروت للكتاب عاد السنة الماضية، لكنه كان باهتاً وبات يحتاج إلى مقاربة مختلفة في آليات التنظيم ودعم القارئ الذي ما عاد قادراً على شراء الكتاب. المكتبات تراجع مبيعها المحلّي إلى حدود 70 في المئة. لكن، على رغم عملية الاستنزاف اليومي للناس، فإن الحراك الثقافي في الأشهر الماضية بدأ يستعيد شيئاً من زخمه السابق، وهذه مفارقة. ثمة نشاط شبابي واعد في المسرح وغيره. المعارض التشكيلية ربما تكون استثناء. المبادرات الثقافية الفردية لافتة أيضاً، مع أنها غير كافية. أهميتها أنها تقول "إننا ما زلنا هنا رغم كل شيء". ليس سهلاً أن تنظّم نشاطاً ثقافياً في هذه "المطحنة" التي نعيشها يومياً. برأيي المشكلة الأكبر تكمن في غياب مبادرات ثقافية وطنية تواكب حالة الانهيار القائم وتطرح الأسئلة الكبرى حول أيّ وطن وأيّ نظام سياسي نريد. وهذه مسؤولية النخب الثقافية. بيروت مطالبة بأن تستعيد دورها بدءاً من الثقافة. في السياسة الكل ينتظر التسويات من الخارج كما جرت العادة غالباً، لكن في الثقافة ثمّة هامشاً مُتاحاً يجب ألا نخسره أو نتخلّى عنه.



البرامج الثقافية على التلفزيون، كيف حالها، هل لها جمهور، خصوصاً مع اهتزاز الأرض تحت التلفزيون؟

هنا يبرز تحديان: الأول مرتبط بشكل البرامج الثقافية نفسها وجمهورها، والثاني مرتبط بمنافسة الإعلام الرقمي ومنصّاته المختلفة لوسائل الإعلام التقليدية. لذلك تصعب الأمور أكثر على البرامج الثقافية وتسويقها كمنتج تلفزيوني "ربّيح". في المناسبة، جمهور البرامج الثقافية هو نفسه الجمهور الذي تراه في الأمسيات والفعاليات الثقافية، ويتميز بأنه أكثر صبراً على مشاهدة حلقة تلفزيونية كاملة. طبعاً، حسابات القنوات التلفزيونية مختلفة.

تحرص على أن يكون برنامجـــــــــــك شبابياً، والنسبة الأكبر من ضيوفك من الشباب، بماذا تمتاز هذه الفئة، ثقافياً، أم أنك تفعل ذلك لأسباب تلفزيونية؟

في "شارع الحمرا" شارك شباب وشابات من الجامعة الاميركية والجامعة اللبنانية وجامعات أخرى كما شباب "حراك 17 تشرين" وشباب فلسطينيون وسوريون وعرب. من المهم والضروري أن تكون هذه الفئة العمرية هي الأساس، لأن أي تفكير في المستقبل لا يمكن أن يتجاهل آراءهم، ولدى هؤلاء أمور كثيرة ليقولوها. يستضيف البرنامج ضيوفاً من مختلف الفئات العمرية، لكن النسبة الأكبر هي من فئة الشباب بين الـ20 والـ45 عاماً. لا أعرف بالضبط ما هي الضرورة التلفزيونية في عالم متغير بسرعة، لكن ما أؤمن به هو ضرورة مشاركة هذه الفئة، مع أن نسبة كبيرة منها مصابة بالإحباط وتفكر في الهجرة.

ماذا تغير في التلفزيـــــــــــــون، مع منافسة الأونلاين؟

كنتُ أقول إننا بعد عقد من الزمن أو عقدين ربما نستغني تماماً عن التلفزيون. لكن الأمور تحتاج الى وقت أطول. من جهة، هناك جمهور كبير ما زال متعلقاً بالتلفزيون لا سيما الفئات الأكبر سنّاً، ومن جهة أخرى ما زال التلفزيون يمتلك سطوة على الجمهور لا تجدها في وسائل التواصل الاجتماعي مثلاً. لا اتحدث عن الصدقية، هذا شأن آخر. المؤكد أن التحدي الأساسي للتلفزيون يتمثل في منصات الإعلام الرقمي أو ما يعرف بالإعلام الجديد، واليوم دخلنا في مرحلة أخرى هي الذكاء الاصطناعي. كثير من القنوات التلفزيونية استدركت الأمر وحاولت المزاوجة بين التقليدي والرقمي.

يبدو التلفزيون بحاجة إلى جمهور السوشيل ميديا، أهذا صحيح، كم نسبة المتابعة عبر السوشيل ميديا لبرنامجك؟

هناك نوع من الخدمات المتبادلة التي يوفرها كل من التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي. كلاهما بحاجة إلى الآخر. التلفزيون يحتاج إلى جمهور السوشيل ميديا، والأخيرة تتغذى بشكل أو بآخر على قضايا مطروحة في التلفزيون والإعلام التقليدي. يحاول التلفزيون من خلال المزاوجة بين التقليدي والرقمي كسب فئات أوسع من المشاهدين وتحقيق مداخيل إضافية. الأمر السلبي في الموضوع هو أن التلفزيون يلجأ في كثير من الأحيان إلى مجاراة السوشيل ميديا في لغة "الترند". وهذا ما يفسِّر التفاوت الكبير بين ما تعرضه القنوات التلفزيونية ومحتوى صفحاتها على وسائل التواصل الاجتماعي.

ما أعرفه أن نسبة مقبولة من الناس تتابع "شارع الحمرا" أو مقاطع منه عبر السوشيل ميديا، إما لأنهم هجروا التلفزيون أو لأن التيار الكهربائي يكون مقطوعاً عندهم!

هل ما زال التلفزيون يصنع نجوماً؟

لم ينتهِ تماماً عصر صناعة النجوم في التلفزيون، وإن تراجع لمصلحة نجوم السوشيل ميديا الجُدُد. في السابق، كانت المحطات التلفزيونية محلية، وكان عدد نجوم الشاشة قليلاً، وكانوا معروفين للناس. لاحقاً، ساهمت طفرة القنوات الفضائية في صناعة نجوم تلفزيونيين على مستوى العالم العربي، لكن كثيرين منهم أفل نجمهم. دخلنا الآن في زمن نجوم السوشيل ميديا، فكثير ممّن يسمّون "مؤثرين" على وسائل التواصل بات لديهم ملايين المتابعين، لكن للأمانة، هذا أمر آخر لا علاقة له بعمل الإعلام.

هل تفكر في التمدّد إلى الأونلاين أو المزاوجة بين التلفزيون والأونلاين؟

الجميع يريد، بشكل أو بآخر، أن يلحق الأونلاين ليس بحثاً عن انتشار أوسع وكسباً للربح بالضرورة، بل لأننا في حال لم نفعل ذلك قد نجد أنفسنا بعد سنوات خارج الزمن. أسعى لفهم أكثر لآليات عمل الإعلام الرقمي، إذ لا يكفي أن تقدم مادة رقمية بعقلية الإعلام التقليدي. "شارع الحمرا" مثلاً هو برنامج تلفزيوني مُعَدّ في الأصل ليعرض على الشاشة الصغيرة ويستفيد من حضوره على المنصات الأخرى كاليوتيوب والفايسبوك. في حال فكرتُ في تقديم محتوى خاص بالسوشيل ميديا سأكون أمام تحد كبير بشأن نوعية المحتوى الذي سأقدّمه مع وجود هذا السيل الهائل من البرامج والمواد البصرية.

هل تفكر في تقديم برامــــــــــــج غير ثقافية؟

سبق لي أن قدَّمت برامج سياسية عديدة في الإذاعة والتلفزيون. قدمت الـ"توك شو" السياسي لسنوات. لكن هناك متعة في تقديم البرامج الإخبارية الحوارية اليومية ذات الإيقاع السريع والتي تبقيك في قلب الحدث، وهذا ما جرّبته أيضاً. الأهم بالنسبة إلي هو خوض تجارب فيها تجدُّد وثراء مهني سواء أكانت السياسة جزءاً منها أم لا.




فقد شارع الحمرا بنسبة كبيرة صورته كشارع ثقافي


"لا تصدّقوا أنّ لكل زمن حمراءَه"

يطرح إصرار فراس خليفة على تقديم برنامج تلفزيوني ثقافي تحت اسم "شارع الحمرا"، السؤال عما إذا كانت تلك المحلة من العاصمة ما زالت شارعاً ثقافياً.

ويجيب خليفة: "من الواضح أن شارع الحمرا فَقَدَ بنسبة كبيرة صورته المعروفة كشارع ثقافي. الظروف التي صنعت ذلك النموذج الباهر والفريد لأجمل شوارع بيروت تبدّلت. في المناسبة، متغيرات وتحولات الحمرا ليست وليدة الأزمة الراهنة فحسب، بل هي سابقة عليها لسنوات وحصلت على مراحل. في الحمرا اليوم جيوش من الصرّافين ومتسوِّلي الرصيف، ومقاهي الأراغيل التي "فرَّخت" أخيراً... النفايات والعتمة (سُجّلت مبادرتان لإضاءة الشارع الرئيسي وبعض الشوارع المتفرعة). وهذه كلها من مظاهر الأزمة. وضع الشارع مُحزِن. مع ذلك، يبقى الشارع استثنائياً لا لماضيه الجميل فحسب، بل لأنه يمتلك مقوّمات النهوض مجدداً. منطقة راس بيروت - شارع الحمرا ضمناً - فيها نسيج اجتماعي وتنوع مديني قد لا تجده في أي منطقة أُخرى في بيروت. هذه المنطقة ولّادة للنشاط الثقافي بفعل تكوينها، من دون أن ننسى تأثير الجامعة الاميركية. كان الشاعر الراحل أنسي الحاج يرثي شارع الحمرا عندما قال "لا تصدّقوا أنّ لكل زمن حمراءَه: هناك أزمنة تنطوي بانطواء أماكنها وأماكن تنطوي بانطواء زمنها". أقول: مَن يدري؟ ربما يستعيد الشارع دوره بشكل مختلف في المستقبل".

إزاء ذلك، لِمَ الإصرار على "شارع الحمرا"؟ ينفي خليفة أن يكون ذلك بفعل الحنين أو بدافع المقاومة. ويقول: "تصوير البرنامج في المقاهي والمكتبات والأماكن المفتوحة، وفي الشارع نفسه، هو جزء من الهوية البصرية للبرنامج التي تتعاطى مع الشارع كما هو الآن. "شارع الحمرا" ليس برنامجاً توثيقياً، بل يستفيد من وجود الأماكن ورمزيتها ويقدم مادة مَرِنة ومنوّعة في قضايا الثقافة والمجتمع والإعلام والسياسة. معظم الحلقات صُوِّرت في الحمرا، أو راس بيروت، مع استثناءات قليلة بحسب ما تقتضي الضرورة، وفي الآونة الأخيرة، بدأنا الخروج من دائرة "الحمرا الكبرى"، لكني أحرص دائماً على العودة إلى الحمرا للحفاظ على هوية البرنامج وطابعه".


MISS 3