بشارة شربل

فرنجية الذي نريد

12 نيسان 2023

02 : 00

لا أحبُّ الرثاء. وإذا اضطررت، أتواضع في تعداد المآثر وأتجنب تجميل الخطايا والأخطاء. أحتفظ لمن يستحقونه بزاوية لطيفة في حنايا الذاكرة. وبين هؤلاء سمير فرنجية الذي ذكَّرنا أصدقاؤنا المشتركون على وسائل التواصل بأنه غادرنا كنسمة قبل ست سنوات.

لم يقصّر محبّو سمير وعارفوه في الكتابة عنه، وكان توثيق "زمن سمير فرنجية" بقلم رفيق دربه محمد حسين شمس الدين (2019) أبلغ من الشذرات المتفرقة القيّمة والجميلة. لكن في "حضرة الغياب" يُفتقد سمير فرنجية "كأنه علَمٌ في رأسه نارُ" يُستدل به الى وجهة خروج من الكارثة الوطنية. وهو رآها غير ممكنة إلا عبر بوابة "كتلة تاريخية" انتظرها طويلاً وبإيمان عميق بوحدة لبنان وقدرة البلد الصغير على مداواة جراحه، سواء عبر "مؤتمر دائم للحوار" يفضي الى سبر "اقاصي العنف" لدى شعب واحد حاد العصبيات الطائفية والاجتماعية المتنوعة، أو عبر "انتفاضة استقلال" تستعيد السيادة من الوصاية السورية وتعيد الطائفة الشيعية الى مشروع الدولة و"لبنان أولاً".

من لقاءاتي القليلة بسمير فرنجية أذكر بضع محطات. أوّلها في "دير مار شربل" - الجية أثناء الحرب الأهلية في 1975. كنا على قدر يفاعتنا وكان على وسع إدراكه. التقينا على رفض العنف ومحاولة وقف مسلسل التهجير، متوهّمين أن الجسر العلماني قادر على كبح الغرائز وحماية الأقليات التي تحولت رهائن الجغرافيا والديموغرافيا رغماً عنها. وفشلنا فشلاً عظيماً.

ثانيها، على غداء في شارع عبد الوهاب الانكليزي يوم سقط علينا خبر صدور القرار 1559. سارعتُ الى جريدتي، وخفَّ الى لقاء سياسي بعدما هطلت عليه الاتصالات. ودَّعني قائلاً: "سنذكر هذه اللحظة يا صديقي".

ثالثها، حين قصدته والزميل وسام أبو حرفوش في أحد الصباحات للاستنارة برأيه، في حمأة "حفلة الاغتيالات". كان يسكن في شارع مار الياس في بيروت الغربية. وجدْنا الدركي المولج بحمايته نائماً على كرسيه في مدخل البناية. صعدنا وقرعنا. فتح لنا بنفسه. استنكرنا اجراءاته الفاشلة فشرح نظريته الأمنية المتكاملة: أبو أحمد ما بيسمحلهن وعدنان صاحب الدكان منتبه وأبو علي عشرة عمر. هون ما بيسترجوا. وخارج هون مَن أنا مقارنة بأمن رفيق الحريري؟.

في كل يوم يمر على الانهيار وعلى المأزق الرئاسي الذي يعكس أزمة عيش مشترك وعلاقات طوائف ونظام متهالك يُستذكر سمير فرنجية بمسيرته الفكرية والسياسية الطويلة المربوطة بخيط الهمّ الانساني والوطني العام. غاب. لكن بقي من "البيك الأحمر" و"عراب الاستقلال الثاني" قيمٌ لا تزول. يسارية العدالة الاجتماعية. لبنانية السيادة والدولة. فلسطينية نبل القضية ورفض استخدام لبنان ساحة مستباحة. وقومية "العروبة الديموقراطية" المتجاوزة العصبية العنصرية والمزج السني الشعبوي بينها وبين الدين.

التفكير بشخصية سمير فرنجية وإرثه الفكري والسياسي يفتح دائماً على عصف أفكار وأسئلة جديدة مع تغير الظروف الموضوعية وثبوت كمية استحالات كان سمير متفائلاً بأنها ممكنة. "الكتلة التاريخية" العابرة للطوائف ربما لم تعد بين الاحتمالات. "العروبة الديموقراطية" حلمٌ منفصل عن واقع الحال. "اتفاق الطائف" رميمٌ صعب الترميم مهما خلصت النيات... رغم ذلك نحتاج رئيساً بمواصفات سمير فرنجية: عميق الثقافة، انسانيّ النزعة، صلب الوطنية، واسع الأفق، قادر على الفهم والإفهام. لعلّه حلمٌ لكنه ما نحتاج.