حسان الزين

يؤكد أنه كان موضوعيّاً وعادلاً وعلى مسافة واحدة من "المتّحدين الدرزي والماروني"

مكرم رباح: جيل حرب 1958 خاض "النــزاع على جبل لبنان" بذاكرة مسلّحة

14 نيسان 2023

02 : 01

مكرم رباح: علّمني كمال الصليبي وعبد الرحيم أبو حسين أن أقول الحقيقة مهما كانت قاسية

جريء هو مكرم رباح في كتابه "النزاع على جبل لبنان". وعلى رغم انطلاقه من "منهج" كمال الصليبي في قراءة تاريخ لبنان وإعادة صوغه بروح الزمن الحاضر، إلا أنّه يغامر وحده. وهذا من خصائص أسلوبه وأدواته ومنطلقاته. رباح الذي يغوص في التاريخ الشفوي للذاكرة اللبنانية يُقدم على موضوعه بلا منطق جاهز يعطي النتائج بناءً على مقدّمات. فهو وإن كان مجهّزاً أكاديميّاً وبقرار أن يكون على مسافة واحدة من أطراف النزاع، إلا أنه يترك نفسه يتفاعل مع الأحداث بعقل منفتح، تأريخي تارة وسياسي طوراً. وهو لا يكتب التاريخ للتاريخ أو التأريخ فحسب، إنّما لهدف يجعل الأحداث أمثلة. وهذا الهدف تارة هو أكاديمي تأريخي، وطوراً هو إعادة الاعتبار علميّاً للذاكرة الشفوية باعتبارها موضوعاً ضروريّاً للبحث ومخزناً للتاريخ والسياسة والمجتمع والأسلحة. ودائماً، هدف رباح معالجة الذاكرة والشفاء منها ومن كل ما يعرقل بناء "بيت بمنازل كثيرة" يتّسع للجميع من دون أن يُلغى التعدد في هويّة مركزية واحدة، "قاتلة". وقد نجح حيناً ولم يتحرر من موروثه وموقفه السياسي حيناً آخر. وهذا طبيعي إنسانيّاً ومنهجيّاً، وهو نفسه يؤكد أنه سيفحص ذلك الآن ومستقبلاً. على رغم ذلك، تقتضي الجرأة التي تحلّى بها رباح، والمغامرة التي أقدم عليها، قراءة الكتاب من أوّله إلى آخره، ومن دون أحكام مسبقة أو بحث عن قصص وأحداث ومعارك. فالكتاب ليس تاريخاً للنزاع على جبل لبنان، إنما هو تأريخ للذاكرات التي تسلّحت وتقاتلت، وهو مساجلةٌ معها ومحاولة لتفكيك الألغام التي زُرعت فيها. معه، هذا الحوار الذي لا يُغني عن قراءة الكتاب.



يبدو في الكتاب أن "النزاع على جبل لبنان" هو بين ما تسمّيه "المتّحدين" الدرزي والماروني فحسب، خصوصاً حين تقول إن كمال جنبلاط وكميل شمعون بقيا بعد 1958 يستعدان للمواجهة التي حصلت في 1975، لكأنك تنزع النزاع على الجبل من الحرب وتُحيل إلى التقاعد القراءات التي ترى أن هناك أسباباً أخرى للحرب، مثل الطائفية والطبقية والعوامل الخارجية ومنها العنصر الفلسطيني، إضافة إلى اتفاق القاهرة وتعنّت الأطراف السياسية؟

الفكرة هي أنَّ المدرسة التاريخيّة اللبنانية، القراءة الماركسية التي تركّز على الصراع الطبقي، والقراءة التي تعتبر مشاكل الإقليم والمشاكل الدولية هي علة "حرب الآخرين على أرضنا"، والقراءة التي تعتبر طائفية النظام هي السبب، كلّها عالجت الحرب بإسهاب، وقالت ما لديها، فما الذي أقدّمه إذا ما كرّرت، أنا أو غيري، تلك القراءات؟ المكتبة التاريخية اللبنانية مليئة بهذه المعالجات. عملي أنا، ما اقترحته وزدته، هو فصل من فصول هذه المكتبة التاريخية التي تركّز على الصراع الدرزي- الماروني.

بما أنّ لبنان قبل 1990 كان يُعتبر ملكاً للمارونية السياسية اعتُبرت محاولة الدروز واليسار تدميراً للمارونية السياسية عبر إحدى المعارك وهي معركة الجبل. لهذا أنا لا أعتبر تلك القراءات ليست أساسية، لكن أعتبرها إحدى العدسات الإضافية للنظر إلى الصراع التاريخي اللبناني، عبر الذاكرة الجماعية، وكي نفهم أهميّة الانطلاق من هذا الصراع إلى المصالحة. فمن دون أن نفهم كيف تُكوّن الذاكرة الجماعية لن نفهم كيف يمكن تفكيكها، لمنع تسليحها واستعمالها.





لسبب منهجي؟

لسبب منهجي، ولأنني أعتبر أنه لم تتم كتابة تاريخ حرب الجبل بشكل منفصل أو البحث فيه بطريقة مفصّلة. وهذا ما أقدّمه، كأكاديمي، إلى المدرسة التاريخية.

لكنّك قد أحلت القراءات المتعددة في المدرسة التاريخية اللبنانية إلى التقاعد؟

لم أحلها إلى التقاعد. اعتبرت أننا استنفدناها، وأي محاولة لاعتماد الطرق نفسها ستعطينا النتائج ذاتها. فأنا بطريقة ما أقول فلنترك تلك المناهج ولنستعمل ما استعملته. أنا لا يمكن أن أغفل استعمالات الماركسيين، ولكن عندما تمسك كتاباً ماركسياً أعرف إلى أين سيصل. بينما من يقرأ كتابي لا يعرف إلى أين هو ذاهب. هناك كثيرون يقرأون اسمي ويجدون أنني درزي، فيعتقدون أنني سأشتم الموارنة، أو لأن عندي تجربة حزبية معيّنة، تكون ردّة فعل القرّاء محكومة بالتأطير السائد في لبنان. لكن في الكتاب نقد للمتّحد الذي تربّيت فيه، واستعملت كيف تمّ تطبيق الذاكرة الجماعية عليّ كطفل. وهناك أمور لم يقلها المسيحيون الذين حاورتهم فقلتها أنا. لهذا لم أحلها إلى التقاعد إنما اعتبرت أن تلك المساهمات موجودة وأساسية، لكن بنيت عليها لأكتب شيئاً جديداً، مثلما استعمل أصحاب تلك القراءات أشياء قديمة ليكتبوا شيئاً جديداً.

هل لديك شعور بسوء فهم الكتاب؟

ردة الفعل على الكتاب ممتازة، لكن هناك من انتقده من دون أن يقرأه، وهناك من يقرأ الكتاب بالمقلوب، يبحثون أولاً عن الخلاصات، ثم يرجعون إلى البداية. ما أفعله جديد. لهذا، يُفضّل أن يتنازل القارئ عن الغرور، ويقرأ من البداية. والطرح الذي أقدّمه، التاريخ الشفوي، لم يستعمله أحد في لبنان. كثيرون يستعملون المقابلات للإسناد، لكن أنا غطست فيه، وأحب التاريخ الشفوي. وفي كتابي الأوّل استعملت التاريخ الشفوي، وكتبت عن الحركة الطلابية في الجامعة الأميركية وتأثير المقاومة الفلسطينية عليها. وهذا ما جعلني أقدّر هذه الأداة لكتابة تاريخ لبنان.




لنعد إلى الحرب، وأسألك: ما هي أسبابها برأيك؟

هناك أسباب عدّة. لبنان الذي تأسّس في 1920 لم يأخذ بعين الاعتبار حركة المجتمع، وقد وضعه في إطار. ونظام ما قبل 1990 كان مجحفاً بحق نصف اللبنانيين. والمارونية السياسية، التي لا تعني الموارنة إنّما تعني الطبقة التقليدية الأساسية، رفضت أن تقدّم تنازلات. وفي المقابل، كمال جنبلاط واليسار اللبناني تماهيا مع استعمال السلاح الفلسطيني. وهناك أيضاً، تنازل لبنان عن سيادته في اتفاق القاهرة (1969)، إضافة إلى ما كان يحصل في المنطقة والحرب الباردة. كلّها عوامل جعلت لبنان يفقع من الداخل. وهناك سبب لا يمكن تجاهله، وهو أن اللبنانيين كانوا يعتبرون أن هناك غطاءً دوليّاً وإقليميّاً على البلد، مثلما حصل في 1958، واعتقدوا أن القتال جولة من العنف يتم بعدها ترتيب المكتسبات ويحصل نوع من تسوية مثلما يُنتظر الآن. وهذا ما لم يحصل، فانتظر اللبنانيون 15 سنة. وبهذا تجاهل اللبنانيون أن الحرب كانت بسبب الخلل البنيوي للنظام السياسي، وعدم تحلّي الأطراف اللبنانية بالمسؤولية كي يتنازلوا ويجروا إصلاحات سياسية. الاتفاق على الإصلاح السياسي صار في 1990، لكن ذلك لم يُطبّق، فانتقلنا من خلل بنيوي إلى خلل بنيوي آخر.






بالتزامن مع النزاع في الجبل، حصلت "انتفاضة 6 شباط" في بيروت ضد حكم الرئيس أمين الجميل، وشاركت فيها حركة أمل وقوى يسارية وأخرى إسلامية. وهذا يعني أن النزاع على الجبل جزء من الحرب في لبنان؟

لكن إطار النزاع وأساسه وضعهما كمال جنبلاط واليسار اللبناني. حركة أمل دخلت إليه بأدبيات أخرى ومن منطلقات مختلفة ولأسباب وأهداف مغايرة. الشيعية السياسية، قبل اليسار والأحزاب القومية، كانت في الجناح المحافظ في السياسة اللبنانية. والذاكرة الشيعية - المارونية لا تتضمّن مخزوناً يمكن تسليحه. أما السنة فلا يتعاملون مع الصراع بينهم وبين المارونية السياسية بناءً على الذاكرة إنما على التاريخ، لكونهم يعتبرون أنفسهم امتداداً للمسلمين، وقد تضرروا من التغيرات الاقتصادية والسياسية اللبنانية. بمعنى ما ليس في الذاكرتين السنية والشيعية تجاه الموارنة ما يمكن تسليحه، كما هي الحال بين المتّحدين الدرزي والماروني.

بناءً على هذا، وعلى الكتاب، هل الذاكرة أقوى من السياسة، مثلاً تقول إن وليد جنبلاط حاول حل النزاع في الجبل لكن الذاكرة كانت أقوى، وبشير أمر مقاتليه بالإنضباط واحترام أهل الجبل (الدروز) لكن ذلك مستحيل؟

المشكلة أنه عندما تُستعمل الذاكرة بالطريقة التي استُعملت في النزاع على الجبل تخلق وحشاً، لا يمكنك ضبطه. يحتاج ذلك إلى وقت، وربما إلى مجازر ومآسٍ. وكان ذلك عند الدروز أهون بسبب قدرة وليد جنبلاط. وقد ذكرت في الكتاب أن المكوّن الجنبلاطي كان أضعف من المكوّن اليزبكي، وتمّ توحيد الذاكرة الدرزية بالقوّة، مثلما فعل بشير الجميّل في ما أسماه وحدة البندقيّة. وفي الحالين، حصل ضرر، لأنّه عندما توحّد الذاكرة تُضعف الطائفة. فالطائفة عندما يكون فيها خياران، إذا ما خسر واحد يبقى الثاني. وخزانة الذاكرة التاريخية في لبنان تدل على تعدد ضمن الطوائف. وهذا ما جعل النظام يعيش. وفكرة الرجل القوي في الطائفة الذي يلغي الرجال الأقوياء في طائفته أضعفت الطوائف. النظام سابقاً لم يكن قويّاً، إنما كان قادراً على توزيع الأدوار، وكان دائماً يجد في الطوائف من يكون فيه في مقابل المعارضين.

ماذا ومن فتح النزاع على الجبل؟


ما كسر الجبل هو اغتيال كمال جنبلاط وردّة فعل الدروز بالمذابح التي قُتل فيها أبرياء منهم جنبلاطيّون ويساريون. وهذا ضدّ المنطق. في التقليد القبلي يمكن أن تأخذ الثأر ممن آذاك، وفي هذه الحال يمكن أن يُقتل الدرزي اليزبكي قبل الماروني الجنبلاطي أو اليساري.

لكنّك في الكتــــاب ترجّح دور عملاء السورييـن الذين حرّضوا على المذابح، ويبدو هذا العنصر متقدّماً على الذاكرة؟

العملاء وجّهــوا الذاكـــرة. فخلال ربع ساعة وصل خبر الاغتيال من ديردوريت، وهي منطقة معزولة، إلى الباروك. وهذا ليس تفصيلاً. هناك معلومات. وبدأت المجازر خلال ساعة من الاغتيال.




هل من أدلّة على تحريض العملاء على المجازر، أم تسوقه لغرض سياسي وللتخفيف من المجازر بحق المسيحيين؟

أجل، هناك أدلة. وحركة وليد جنبلاط وشيخ العقل محمد أبو شقرا لمنع حصول مجازر دليل على أنه لم يكن هناك قرار سياسي، وأن ما جرى يعاكس رغبة القيادة. ومن حرّض على تلك المجازر، ومن ارتكبها، إما هم شرسون جدّاً وإمّا هم مرتبطون بأجهزة استخبارات. وأجهزة الاستخبارات السورية كانت قويّة والجيش السوري كان قوات احتلال في الجبل. وللأسف، الدروز بهذا الموضوع لم يحقّقوا العدالة، وهؤلاء الأشخاص لم يُحاكموا تحت حجّة أننا بحاجة إليهم ولا نريد معاداة عائلاتهم.

أحصل ذلك بدافع الحفاظ على وحدة المتّحد الدرزي؟

صحيح، ولم يكن الجنبلاطيّون مسيطرين على الساحة الدرزية، لأن اليزبكيين كانوا دائماً في السلطة. والجنبلاطي كان يدخل السلطة ويخرج منها.

هل لأن أولويات وليد جنبلاط في تلك الفترة كانت الإمساك بالحزب والجنبلاطيين وتوفير بنية عسكرية؟


وليد جنبلاط في الفترة ما بين 1977 و1982 كان يسعى لضبط الحزب تحت قيادته الجديدة. وكان هناك قادة عسكريون وسياسيّون منهم أنور الفطايري ورجا حرب وهشام ناصر الدين وعادل سيور. كلّهم كانوا يحاولون تغيير الجو ووجهة نظر الدروز. وفي 1982 كان الدروز يرون أن بشير الجميل أقوى من أن يخسر، ومتّجهون نحو التسوية. وقرار الحرب فرض بالقوة على الدروز.

من فرضه، السوريّون والسوفيات أو جنبلاط؟

الجنبلاطيون هم من اتخذ القرار، ونفّذوه. وقد ربحوا وخسروا.

لماذا اتخذ جنبلاط هذا القرار؟

لأنه يعرف أنه إذا تراجع سيغدو أضعف، ولن يحمي نفسه وسيُعزل كما عُزل والده.

وهل في اعتقادك قرأ جنبلاط الوضع الإسرائيلي وتنامي المعارضة ضد بيغن وشـــــــارون، وماذا عن الوضع الدولي؟

العامل الإسرائيلي كان حاضراً، وكذلك الحرب الباردة، إضافة إلى 6 شباط. ونقل الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي ضوءاً أخضر من السوفيات لمواجهة الوجود الأميركي، وكانت نيوجرسي عند الشواطئ اللبنانية. ما يعني أن النزاع على الجبل لا ينفصل عن الحرب الباردة، لكن في الوقت نفسه علق المتصارعون بوحل الذاكرة.

كأنّك تقول إن الذاكرة تتلاكم مع السياسة؟

عندما تسلح الذاكرة وتستخدمها كما استخدمها الدروز والموارنة يصعب السيطرة عليها. بشير الجميّل، بسبب طموحه وبحكم الذاكرة، سار نحو الرئاسة في ظل الدبابة الإسرائيلية وليس فوقها. وفي المقابل، وليد جنبلاط لم ير في بشير الجميّل إلا بشير الشهابي، على رغم أن الجميّل نقل لكمال جنبلاط ملف مقتل شقيقته ليندا جنبلاط، وبذلك قال "أنا لست أبي أو شقيقي". وقال إنه لا يريد دخول السوريين واحتلالهم.

تبدو الذاكرة هنا، في بعد من أبعادها، شخصيّة؟

الشخصي دائماً حاضر. وكلٌّ من الجميل وجنبلاط من مدرسة مختلفة. الأول يسوعي، والثاني من راس بيروت (الجامعة الأميركية).

هنا، تبدو المواجهة بين ذاكرة 1958 وذاكرة 1860، وإن كان بشير الجميل ووليد جنبلاط ومن معهما من جيل 1958؟

ذاكرة 1958 طازجة أكثر، وحاضرة أكثر، ومعقودة على واقع سياسي استمر من 1958 حتى 1975. وبشير الجميل ووليد جنبلاط ينتميان إلى جيل 1958 الذي يرفض الميثاق الوطني وصيغة 1943. وفيما تكلّمنا قبل قليل عن وليد جنبلاط الذي ورث تركة تدمير الهيكل الماروني من والده واليسار، يمكن القول إن بشير الجميل كان يعتبر النظام ركيكاً ويجب التخلّص منه، واعتَقَد أن ذلك يتحقق بالقوّة والبندقية. وكان حوله تيّاران، واحد يقول له إنه يمكنك أن تصل بالبدلة العسكرية والسلاح، والثاني يقول له إنه من الأفضل وصولك بالبدلة الرسمية والكرافات والعمل السياسي. وقد انتصر التيار الثاني. وصار بشير يتكلّم مع المسلمين بعدما كان يقول إننا دفنّا الميثاق الوطني ووضعنا شاهداً فوق قبره وحارساً كي لا ينهض. ولا بد هنا من التذكير، أنه في مقابل ذلك، المسلمون هم من طلب في 1982 من الفلسطينيين أن يغادروا بيروت. صائب سلام شجّع على ذلك. ووليد جنبلاط وإن لم يقلها سمع من فيليب حبيب أن الفلسطينيين يجب أن يرحلوا، وأن أرييل شارون ومناحيم بيغن لن يتراجعا، وأن هناك تسوية وكامب ديفيد.

يحيلنا هذا إلى ما تقوله في الكتاب من أن جنبلاط والجميل تارة يكونان محكومين بالذاكرة وطوراً يحاولان السيطرة عليها، فارتكبا الأخطاء أحياناً وأفسحا المجال للسياسة أحياناً؟

الذاكرة أقوى من السياسة عندما يكون من يستخدمها لا يعرف فيها. الدروز والموارنة شاطرون فيها. وليد جنبلاط ورثها من كمال جنبلاط الذي مارسها. الموارنة أقوياء في استخدام الذاكرة لأن لديهم مؤسسات تعليمية وكنيسة. وقد تناولت الرهبان نموذجاً. الآخرون يستخدمون الذاكرة لكنهم أقل قدرة ومهارة.

مصالحة الجبل، أنت موافق عليها لكن لديك انتقادات لها!

المصالحة السياسية أساسية لكنّ مقوّماتها الاقتصادية والاجتماعية غير موجودة. الأحزاب لا تقدر على إنجاز المصالحة كاملة. ما حصل في 6 أيلول 1983 في حرب الجبل، هو أن الدرزي وجد نفسه فجأة وحده. لعبة «توم أند جيري» التي مارسها الدروز والموارنة انتهت. ودعوة فخر الدين الموارنة ليشاركوا معه في اقتصاد جبل لبنان تمّ عكسها، عندما هُجر المسيحيّون. ما قضى على التجربة الدرزية - المارونية.

المصالحة تتحقق عندما يعمل الدرزي مع الماروني، ويدخل كلٌّ منهما بيت الآخر. لا تتحقق عندما يلتقي وليد جنبلاط والبطريرك نصر الله صفير. المصالحة تجربة يومية. علماً أن الآن لا مشكلة بين الموارنة والدروز. وفي حين هناك حاجة إلى الدولة كي تستثمر وتشجع على الاقتصاد والعيش في الجبل، لا بد من التأكيد أن المجتمع هو من يحقق المصالحة. والمصالحة لا تعني إلغاء التعددية، بل العكس كما قال كمال الصليبي في «بيت بمنازل كثيرة». فلكل منّا غرفته في هذا البيت، ولكل منا أن يعلّق صورة من يشاء في غرفته، وفي غرفة الجلوس والمساحات المشتركة تكون صورتنا العائلية.

هل كنت على مسافة واحدة من الدروز والموارنة؟

أجل، وكنت موضوعيّاً، لكن عندي وجهة نظر أيضاً. لا أحد بلا وجهة نظر. لسنا ماكينات ومنزوعين من مشاعرنا.

هل كنت قاسياً؟

كنت عادلاً. هذا ما علّمني إيّاه كمال الصليبي وعبد الرحيم أبو حسين، أن أقول الحقيقة مهما كانت قاسية.




كمال الصليبي يبدأ تنظيف "البيت" 


يتردّد صدى كمال الصليبي في كتاب مكرم رباح (النزاع على جبل لبنان)، وفي الحوار معه، على حدّ سواء. فكما كتاب رباح هو تأريخ للذاكرتين الشفويتين لـ"المتّحدين الدرزي والماروني"، ونقد لهما، كذلك هو الكتاب البارز للصليبي، "بيت بمنازل كثيرة"، هو "ليس رواية عادية لتاريخ لبنان، بل عبارة عن دراسة نقديّة للرؤى المختلفة لهذا التاريخ"، وفق الصليبي.



فرباح لا يُخفي انتماءه إلى المدرسة التي بلورها الصليبي في إعادة كتابة تاريخ لبنان. وقد ألّف الصليبي في هذا المجال "تاريخ لبنان الحديث" (1967)، "منطلق تاريخ لبنان" (1979)، و"بيت بمنازل كثيرة" (1990)، ودراسات عديدة منها: "الموارنة - صورة تاريخية" (1969).



ينطلق الصليبي من أن "لبنان اليوم يقدّم مثالاً ممتازاً للمجتمع السياسي المحكوم عليه بأن يعرف ويفهم الحقائق التاريخية الصحيحة لتاريخه إن هو أراد البقاء في الوجود". واستجابة لهذه الحاجة المعرفية والسياسية ألّف الصليبي كتابه.



ويطبّق الصليبي في "بيت بمنازل كثيرة" ما يدعو إليه، وهو إجراء "حملة تنظيف عامة في بيوت العناكب المنسوجة داخل البنى الطائفية والمذهبية المختلفة في البلاد لإزالة جميع الأحكام المسبقة والأحكام المسبقة المضادة المتعلّقة بماضي لبنان وماضي العرب".



ولحملة التنظيف هذه هدف بالنسبة إلى الصليبي، ألا وهو "اكتساب اللبنانيين المعرفة التاريخية اللازمة، والفهم التاريخي اللازم، حتّى يتسنّى لهم الخروج من المأزق المخيف الذي يجدون أنفسهم فيه".

ولهذا، يطرح في فصول الكتاب "بعض التقييمات النقدية للنظريات المختلفة التي قدّمتها المؤسسة السياسية المسيحية اللبنانية حول الماضي اللبناني لترويج فكرة الهوية القومية اللبنانية التاريخية".

كذلك، يُجري "مسحاً للمواقف الإسلامية والدرزية المتعلّقة بتاريخ لبنان"، ويحلّلها.



وفي حين يعتبر أن الرؤى التاريخية للبنان التي قدّمها المسيحيّون "لم تعرف نجاحاً كبيراً" و"لم يقبلها اللبنانيون جميعاً"، يرى أن "المواقف الإسلامية والدرزية بقيت بدائية وضعيفة الصياغة".

وفي حين ينتقد "حذر المؤسسة السياسية المسيحية في لبنان من الاعتراف الصريح بواقع عروبة البلد"، يحكم بإخفاق العروبيين اللبنانيين في محاولتهم "تحديد مضمون عروبة لبنان التاريخية بدقة". وهنا تكمن "جذور المشكلة اللبنانية".



وفي حين يجزم الصليبي أن لبنان عربي، يدعو إلى الفصل ما بين العروبة والإسلام.

والصليبي الذي يحزن في الأسطر الأولى من الكتاب لكون "لبنان برز، منذ العام 1975، في العالم مضرب مثل للفوضى والعنف"، يلاحظ أن الحرب التي "مزّقت لبنان وتسبّبت بتنقلات جماعية للسكان"، "أخفقت في تدمير البنية الأساسية للبلد وفي وضع حدّ لوجوده كدولة".



لهذا، وفق الصليبي، على اللبنانيين، بل على المؤرّخين خصوصاً، تنظيف تاريخهم، وذلك من أجل مصلحتهم. وفي كلّ هذا يلتقي رباح مع الصليبي.


MISS 3