حسان الزين

إمتياز يوسف حبشي الأشقر بوجه المتحاربين

14 نيسان 2023

02 : 01

يوسف حبشي الأشقر

لا أدري إن كانت الحرب جعلت يوسف حبشي الأشقر (1929- 1992) كأنه إحدى شخصيّات رواياته، أم أنّه استشعر أنّ الحرب هي المصير المحتوم للمجتمع اللبناني المتصارع، لا كطوائف، كما يرى كثيرون، إنّما كنهج حياة وقيم، وكنظرة إلى الوجود والذات والآخر، والمال والأرض والسلطة.

فالأشقر، الذي توّج مرحلة كتابته القصص الريفية بسلسلة تلفزيونية رائعة تحت عنوان "الضيعة بألف خير"، أحسّ بأن الحرب تستهدف - من بين ما تستهدفه - المدنيّة التي كانت تتسرّب إلى المجتمع اللبناني. ومن تلك المدنيّة محاولته توطين الرواية كأسلوب فنّي يحاكي النزوح من الريف إلى المدينه ويحكيه.

فالجزء الأخير من ثلاثيّته الروائيّة، "الظل والصدى" (1989)، بعد "أربعة أفراس حمر" (1964) و"لا تنبت جذور في السماء" (1971)، يروي كيف أنّ مَن يختارون النزوح إلى المدينة لتحصيل العلم وللعمل المنتج، أي للارتقاء الاجتماعي "الطبيعي"، ليس لهم حظّ، وهم الحلقة الأضعف ومشاريع ضحايا. فالأقوياء في هذا الصراع هم الذين يلهثون وراء المال والأرض والسلطة والمظاهر الاجتماعية لتعويض نقص هنا ولشراء تفوّق وهمي هناك. هؤلاء يفعلون كل شيء من أجل غاياتهم.

وإذ صدمته الحربُ، في 13 نيسان 1975، فرَّ بأسرته إلى قريته بيت شباب. وعاند، في البداية، تصديق أن الحربَ حربٌ. لكن الصدمة الكبرى كانت حين وصل القتال إلى قريته. لم يكن ذلك هجوماً من الخارج، بل صراعاً داخلياً بين أبناء القرية المنقسمين في طرفي النزاع. وعندما أدرك أنّ الضيعة لم تعد بخير، أيقن أنّ الحرب ليست جولة قتال، بل هي صراع على السلطة والأرض والمال، وإن شارك فيه أبرياء ومعتنقو عقائد ومدافعون عن "الوجود" ومطالبون بـ"الحق".

هكذا، لم تُعد الحربُ أبَ الرواية اللبنانية في رحلة عكسية من المدينة إلى الريف، إنما سجنته في البيت والكنبة والسرير، وفي نفسه وصراعاتها الوجودية المتألِّمة.

ولم ينحز إلى أيِّ مقاتل ومصارع. لم يكن مجهّزاً لذلك. فهو ممّن يطرحون الأسئلة، لا ممّن يملكون الأجوبة. هو ممّن يسائلون الذات لا ممّن يحاكمون الآخر ويجلدونه.

وإذ ألحقت الحربُ في روحه دماراً مهولاً، وباتت الكتابة صراعاً، واجه ذلك وكابد، وألّف إبان الحرب واحداً من أجمل نصوصه، "المظلة والملك وهاجس الموت"، وأصر على ترميم مسيرته الكتابية الروائية متابعاً مهمة تشييدها، فألف مسكَ ختام ثلاثيّته.

كلُّ هذا هو ما يميّز يوسف حبشي الأشقر عن الذين خاضوا الحرب وخرجوا منها كأنهم شربوا ماء. ولعله يميّزه حتّى عن الذين انتقدوا مشاركتهم في الحرب. فهو أدرك المصيبة من أيّامها الأولى، وأدرك أنه من الضحايا ولا يمكنه فعل شيء سوى الحفاظ على الحب وقيمه. وليس هذا امتيازاً أخلاقيّاً فحسب، بل هو امتياز معرفي مقرون بممارسة انتماء يائس إلى من جعلهم الصراع ضحايا، وقد اختاروا أن يستمروا في الحياة بصمت. وما زالوا كذلك، بعضهم في لبنان وبعضهم في المهجر.


MISS 3