يشهدُ لبنان سنويّاً سلسلة حرائق في غاباته، وغالباً ما تمتدّ ألسنة النيران لتلتهم كامل أراضيه من الشمال إلى الجنوب، فتتّسع رقعتها بشكلٍ لافتٍ لتطالَ المناطق السكنيّة، فتقضي بذلك على الأراضي الزراعيّة والحرجيّة، مُخلّفةً أضراراً جسيمة ومزدوجة على البيئة والاقتصاد، في ظلّ انعدام قدرة الدّولة على مواجهة هذه الحرائق، مع شحّ الإمكانات التقنيّة والبشريّة للتعامل مع هذه الكوارث الموسميّة والطّبيعية.
وبعدما لبس لبنان ثوباً رماديّاً باكراً هذا العام، بسبب الحرائق التي اجتاحت عدداً من مناطقه بدءاً من شهر شباط الماضي، يبقى السّؤال الأبرز، حول مدى جهوزية الدّولة اللبنانيّة لمواجهة هذه الحرائق، في ظلّ أزمةٍ خانقة تمرّ بها، خصوصاً وأنّه ليس خفيّاً على أحدٍ أنّ التجهيزات والمعدّات المخصّصة لإطفاء الحرائق في لبنان لا تزالُ خجولةً.
وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال ناصر ياسين الذي شارك في الأسبوع الماضي بورشة عمل بعنوان "كيف نتكيّف مع الكوارث الطبيعية والمناخية؟"، اعتبر أنّ "موضوع إدارة الكوارث بات مركزياً وأولوية في لبنان، لا سيما بعد بداية موسم الحرائق باكراً هذه السنة وللمرّة الأولى بتاريخ لبنان في شهر شباط، حين ارتفعت الحرارة بشكل غير مسبوق"، ما يفتح باب التّساؤل حول سبب بداية موسم الحرائق باكراً، وحول مدى استعداد لبنان لتلقُّف هذه الكارثة الطّبيعية التي لا تنقصُ بلداً تنهشُه الأزمات.
في هذا الإطار، أظهرت إحصاءات المديريّة العامّة للدّفاع المدنيّ لموقع "نداء الوطن" الإلكترونيّ، أنّ حرائق الأحراج والأعشاب والنفايات التي التهمت المساحات الخضراء المجاورة خلال الأشهر المنصرمة، توزّعت على الشّكل الآتي: في شهر كانون الثّاني 408 حرائق، في شهر شباط 420 حريقاً، في شهر آذار 394 حريقاً، لغاية تاريخ 13 من شهر نيسان 183 حريقاً، ليكون المجموع 1405 حرائق.
أمّا عن سبب بدء موسم الحرائق باكراً هذا العام، فيقول رئيس جمعيّة "غرين غلوب"، والعضو المراقب في الأمم المتّحدة في البيئة، سمير سكاف، في حديثٍ لموقع "نداء الوطن" الإلكترونيّ: "كان فصل الشتاء ضعيفاً هذا العام، وكميّة المتساقطات كانت ضئيلة نسبةً للمعدّل العام، وهذا أدّى إلى تزايد نسبة الجفاف، كما أنّ نوعيّة الأمطار تغيّرت عن الماضي، والطقس كان جافاً والأشجار لم تحتفظ بالأمطار في جذورها، وبالتالي صار العشب يابساً"، مضيفاً انّ "المناطق الحرجية هي الأكثر عرضة للحرائق وخصوصاً المناطق التي فيها صنوبر أو زيتون، فنحن نشهد النسبة الأكبر من الحرائق في عكار والجرود وزغرتا وبشرّي وصولاً إلى داخل الكورة ومناطق جبل لبنان والشوف والمتن الشمالي، والمناطق الحرجية في الجنوب وبكاسين وجزّين، فيما نسبة الحرائق تكون منخفضة بقاعاً بسبب قلّة الأشجار".
وشرح سكاف أنّ "موسم الحرائق هو موسم الصّيف الممتدّ من شهر تمّوز حتّى تشرين الثّاني، وهو الّذي يشهد العدد الأكبر من الحرائق. وعندما يحدث جفاف، أي شرارة قد تُؤدّي إلى حرائق ضخمة، وهذا ينجم عادةً عن خطأ بشريّ، وليس من الضروريّ أن تكون الحرائق مُفتعلة، إذ قد يحصل عند تنظيف الأحراج من الشّوك واليباس، وعندما يتم حرقها، تكفي شرارة واحدة لتُفاقِم الوضع سوءاً، فتقضي بذلك على الحرج كاملاً، أمّا التغيُّر المناخيّ بشكلٍ عام فيُؤدي إلى جفاف أكبر وبالتالي عندما تكون كمية المتساقطات ضئيلة، فإنّ ذلك سيُؤدّي حكماً إلى جفاف ويباس وذلك يُسرّع الحرائق، ولكن حتّى اليوم، في لبنان، لا شيء يُنبئ بالخطر".
وعن سبب حدوث حرائق ضخمة في لبنان خلال الفترة الماضية، يشرحُ رئيس جمعيّة "الأرض لبنان" الخبير البيئيّ بول أبي راشد، لموقعنا أنّ "في فصل الصّيف، تكون الأعشاب يابسةً وفي ظلّ التغيُّر المناخيّ الحاصل وارتفاع درجات الحرارة، وفي ظلّ تزايُد وتيرة الرياح، تتحوّل الحرائق إلى كارثيّة، ويأتي التقصير البشريّ ليزيد الوضع سوءاً".
وتطرّق أبي راشد في معرض كلامه إلى "البلديّات التي تحرق النّفايات في مكبّات عشوائيّة في الطبيعة وفي الوديان وقرب المساحات الخضراء، والّتي تحوّلت كلّها إلى قنابل موقوتة، تُؤدي إلى نشوب حرائق في غاباتنا بشكلٍ مُتزايد. وما نُلاحظه منذ فترة، أنّ الحرائق بدأت تصلُ إلى أعالي الجبال، أي إلى غابات الأرز واللزاب والشّوح وهذا أمرٌ خطير لأنّ هذه الغابات من الصعب أن تتجدّد".
وتابع قائلاً: "في ظلّ غياب رئيس جمهورية قادر على تعيين حرّاس أحراج ومجالس بلديّة جديدة وناشطة تحترم البيئة، علينا كمجتمعات محليّة أن نأخذ المبادرة ليس فقط كجمعيات، بل كمواطنين أيضاً، فنتجنّد من اليوم، لمراقبة وحماية غاباتنا. فنحن نقوم مثلاً في جمعيّتنا، بتسييج المداخل السهلة لغابة بعبدا التي من المُمكن أن يدخلَ عبرها متنزّهون من دون ملاحظاتهم، ونضع إرشاداتٍ على المداخل ليلتزم بها المواطنون ونتجهّز بمعدّات قريبة من موقع الغابة، لنتدخّل فوراً في حال نشوب حريق، فنقوم بإطفائه إلى حين وصول الدفاع المدني".
أمّا المديريّة العامّة للدّفاع المدنيّ، فتُؤكّد لموقعنا أنّ "الحرائق الّتي اندلعت حتّى اليوم، هي ضمن المعدّل المعتاد في مثل هذه الفترة من السّنة. كما أنّ عناصر الدّفاع المدنيّ تُواجهها وفقاً للإمكانات المتاحة، مع الإشارة إلى أنه لم يتمّ التأخُّر أبداً عن تلبية نداء الواجب الوطني والإنساني"، مؤكّدة أنّه "حين تدعو الحاجة يتمّ استقدامُ التّعزيزات من مراكز متعدّدة لجهة الآليات والعناصر للتمكُّن من السّيطرة على النيران وحصر الأضرار في حدّها الأدنى".
ولأنّ عمليّة مُكافحة الحرائق مكلفة جدّاً، وتفوقُ قدرات لبنان الماليّة، فيما الوقاية منها، شبه "مجّانية" وتُوفر على لبنان تحمُّل أعباء إضافيّة ومصائب هو بغنًى عنها، ذكّرت المديريّة العامّة للدّفاع المدنيّ عبر موقعنا، المواطنين بضرورة التقيُّد بإرشاداتها للحفاظ على ثروتنا الحرجيّة، وأهمّها "عدم حرق الأعشاب اليابسة عند تنظيف الأراضي لأنّها تشكّل وقوداً سريع الاشتعال خصوصاً عند وجود هواء قويّ"، مشدّدةً على "عدم استعمال المُفرقعات خصوصاً بالقرب من الغابات أو الأعشاب الجافّة في الأعياد والمناسبات".
أمّا بالنّسبة إلى المتنزّهين في الغابات الّذين يُضرمون النّار لتحضير الطّعام، فيجب عليهم، بحسب المديريّة العامّة للدّفاع المدنيّ، "حفر حفرة صغيرة بعيدة من الأعشاب أو الأغصان اليابسة تستعمل لإشعال النار للشوي تُردَم عند الانتهاء بالتُّراب، ويُسكَب عليها الماء لتبريدها، ومن ثمّ مُراقبة النّار باستمرارٍ، خُصوصاً عندما يكون الهواءُ قويّاً، ما يُسبّب تطايُر الشّرارات وانتشارها، اضافة الى ضرورة إبعاد الموادّ سريعة الاشتعال عن مكان النار. وعند الانتهاء، يفترض بهم قبل المغادرة جمع النّفايات بأكياسٍ لوضعها في صناديق القمامة وخصوصاً الزجاجيّة منها، وعدم رمي أعقاب السّجائر من السّيارة على أطراف الطُّرق أو عند التنزّه في الغابات وفي محيط المناطق الحرجيَّة"، لافتةً إلى ضرورة "وضع مطفأةٍ يدويّة في السّيّارة لاستعمالها في الحالات الطارئة".
وذكّرت بالاتصال فوراً على رقم الطوارئ 125 عندما تدعو الحاجة، ليتمّ إرسال عناصر المركز الأقرب إلى موقع الحريق وحصر الأضرار في حدّها الأدنى.
وأكّدت المديريّة العامّة أنّ "عناصر الدفاع المدنيّ بجهوزيّةٍ دائمة لتلبية نداءات الإغاثة على مدار أيّام الأسبوع وساعات اللّيل والنّهار، وفقاً للإمكانات المتوفرة. ولا نغفل الدُّور الأساسيّ للمؤسّسة العسكريّة، حيثُ نلقى مساندةً على الدّوام من طوّافات الجيش اللبنانيّ لمُؤازرتنا في إخماد الحرائق في الأماكن التي يصعبُ الوصول إليها بسبب وعورة الطُّرقات".
أضافت: "تفادياً لأن نشهدَ خسائر فادحة في الغطاء النّباتيّ بسبب الحرائق المُفتعلة، نُشدّد على ضرورة أن تتعاون المجالس البلديّة في البلدات والمناطق الجبليّة كافّة مع المديريّة العامّة للدّفاع المدنيّ لجهة تسيير دوريّاتٍ ليليّة تجول على الأحراج للتدخُّل عند ملاحظة أنّ ثمّة مَن يقوم بإضرام النّيران وسط الأشجار وردعه فوراً عن تنفيذ فعله ذلك، بصرف النّظر عن السّبب الذي دفعه لإشعال النّار سواء أكان لتنظيف أرضه من الأعشاب اليابسة أو لأي سببٍ آخر، إذ ما مِن حريق يندلع من دون سببٍ ومُسبّب".
وعن الصُّعوبات التي تُواجهها عناصر الدفاع المدنيّ، فهي تعود إلى كون الآليات تحتاجُ لصيانةٍ دائمة وهي تتعرّض لأعطال بشكلٍ متكرر لأنه لم يتمّ إخضاعها للصيانة المطلوبة منذ سنتَين ولغاية اليوم بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمرّ بها البلاد وعدم توفّر الاعتمادات المطلوبة. وتقول المديرية العامّة إنّ "أبسط التصليحات الميكانيكيّة تبلغ تكلفتها أرقاماً مرتفعة بالدولار الأميركي وهذا ما نعجز عن تأمينه. كما ثمّة نقص في الإطارات والخراطيم الضروريّة لإخماد النيران وسواها من المعدّات".
في الختام، ليس لبنان البلد الشّرق الأوسطيّ الوحيد الّذي تجتاحُه الحرائق في كلّ موسم، إلّا أنّه يبقى الأصغر حجماً بمساحاته الخضراء، والأقلّ جهوزيّة لمواجهتها، فلطالما شهد لبنان سلسلةَ حرائق كبيرة، وواجهها بمؤازرة طوّافات من قبرص، للمساعدة في عمليات الإطفاء..
فهل سيتمكّن هذا الموسم من التصدّي لسلسلةٍ جديدة من الحرائق وموسم جديد من الكوارث الطبيعيّة التي يجب تفاديها، لتجنّب مصائب نحن بغنًى عنها؟