د. هنري شاوول

رسالة مفتوحة إلى الحاكم المقبل لمصرف لبنان

26 نيسان 2023

02 : 00

د. هنري شاوول

بانتظار 31 تموز بفارغ الصبر، فهذا التاريخ سوف يشكل نهاية الولاية الخامسة على التوالي، مدة كل واحدة منها ست سنوات، التي منحت لرياض سلامة في حاكمية مصرف لبنان من قبل طبقة سياسية بنكوقراطية. فمن المحزن أن هناك تركيزاً كبيراً فقط على قضية عمولات شركة «فوري» علماً بأنها قضية مباشرة وواضحة من قضايا الفساد المالي المزعوم والإثراء غير المشروع والاستخدام الاحتيالي للمال العام وغسل الأموال، والتي يحاكمها نظام عدالة محايد. لكن المحزن أنه نادراً ما يجري الحديث عن 30 عاماً من الانتهاكات المستمرة لمواد قانون النقد والتسليف، وتزوير الحسابات، والصفقات الجانبية التي عقدت مع المؤسسات المصرفية والسياسيين ووسائل الإعلام وأي شخص آخر لديه «سلطة» ما على أنشطة البنك المركزي. عدد قليل جداً تطرق لسياسة «شراء الوقت» الأساسية التي اعتمدت منذ عام 1997 وأدت إلى تفاقم المشاكل المالية في البلاد، وأحدث مثال على ذلك هو الهندسات المالية في 2016.

ان حسن اختيار حاكم لمصرف لبنان أمر حساس وجوهري لتوجهات البلد المستقبلية، يضاهي في أهميته انتخاب رئيس للجمهورية وتسمية رئيس لمجلس الوزراء وتشكيل حكومة فعالة تتمتع بصلاحيات استثنائية. وبغض النظر عن الجنس والطائفة والجنسية، فان اختيار الحاكم من قبل الطبقة السياسية يجب ان يستند إلى ضرورة كون هذا الشخص مستقلاً عن النزاعات وبعيداً عن أي تضارب مصالح وعن التعاملات الجانبية مع الجهات السياسية والمشاركين في القطاع المصرفي؛ أي أن على الحاكم الجديد أن يتمتع بسلطة أخلاقية لا تلبي أهواء أو نزوات المؤسسة السياسية بل تبقى في منأى عن ذلك تماماً.

انه منعطف في تاريخ لبنان يجب أن يشكل انفصالاً جدياً عن السياسات والسلوكيات التي سادت خلال العقود الثلاثة الماضية، وإلا لن تنبثق أي مصداقية عن مصرف لبنان. وينبغي على الحاكم الجديد ممارسة الوضوح بما لا يقبل الشك حول ثلاثة محاور مركزية، وهي: العودة الى المبادئ الاساسية للمصارف المركزية، وإعادة هيكلة القطاع المالي (البنك المركزي والقطاع المصرفي)، وتبني سياسات نقدية تتماشى مع احتياجات الاقتصاد.



العودة إلى المبادئ الأساسية للمصارف المركزية



لقد منح الآباء المؤسسون للبنك المركزي استقلالية تشغيلية وقانونية مميزة لمصرف لبنان، ووفروا حماية لشخص الحاكم في قراراته لغاية تزويده بالمساحة القانونية اللازمة لاتخاذ القرارات التي تعود بالفائدة على نمو الاقتصاد واستقرار العملة وتنظيم النظام المالي.

وللعودة الى هذه المبادئ الأساسية، من الضروري أن يأتي حاكم ينظّف كل ما حدث تاريخياً وسبّب أزمات في مصرف لبنان، وذلك لاستعادة الشفافية والمساءلة والإفصاح العام. وبناء عليه، فإن الحاكم المقبل يجب عليه ما يلي:

1 - الاحتفاظ أولاً، وقبل أي شيء آخر، بمدقق حسابات معترف به دولياً، لاجراء تدقيق كامل لحسابات مصرف لبنان بما يتماشى مع المبادئ المحاسبية المعترف بها دولياً ومن البنوك المركزية العالية الجودة، وذلك أيضاً وفقاً لمطلب من مطالب برنامج صندوق النقد الدولي، ومشاركة هذا التدقيق مع الشعب.

2 - ان يكون الحاكم جاهزاً، بناء على نتائج التدقيق المذكور اعلاه، للقيام بـ» تنظيف البيت» من الموظفين الحاليين والسابقين ممن تورطوا في جميع أنواع المخالفات المالية، وذلك من خلال الإعلان عن جميع حساباتهم المالية وإخضاعها للتدقيق أيضاً. كما عليه نفسه أن يفصح بشفافية عما يملك مع فصل تام عن أي عمليات من أي نوع كان مع القطاع المصرفي المحلي.

3 - التعاون الكامل والفوري مع التحقيقات المالية المحلية والدولية ومشاركتها مع الشعب. حيث يتوجب على الحاكم المقبل أن يطلب من المصارف تقديم جميع البيانات المالية ذات الصلة بهذه التحقيقات الى هيئة التحقيق الخاصة، التي بدورها ستقدم هذه المعلومات الى سلطات قضائية مناسبة سواء كانت محلية أو عالمية.

4 - التعاون بشكل كامل وشفاف مع مجلس الوزراء لدعم برنامج صندوق النقد الدولي، مع الإلحاح على هذه المسألة بدلاً من تأخير الكشف عن البيانات وعرقلة الإصلاحات ورعاية المصالح الخاصة. ان التنسيق الكامل مع الحكومة مطلوب لإيجاد مخرج سريع وناجح من الازمة.

5 - الامتثال الكامل للتدقيق الجنائي في مصرف لبنان والذي يقوم به مدققون معترف بهم دولياً، ومنحهم امكانية الوصول غير المقيد الى جميع الملفات والوثائق، والالتزام بنشر نتائج التدقيق على الملأ.

6 - تكليف هؤلاء المدققين بتجميع كافة المعاملات التي تمت مع المصارف التجارية خلال الثلاثين عاماً الماضية من مقايضات وترتيبات خاصة وهندسات مالية، ونشر التقرير علانيةً. وبالمثل، يجب على الحاكم المقبل تكليف المدققين بتجميع كافة المعاملات التي حصلت في القطاع المصرفي مع المعرضين سياسياً والقضاة والعسكريين والاعلام، ومن ثم نشر النتائج امام الشعب.

7 - الالتزام بنشر سرد شفاف للتعاملات بين مصرف لبنان والدولة للسنوات الثلاثين الماضية مع دعمها بالوثائق المطلوبة، بما يوضح جميع التكهنات حول حجم الدين العام أو جودة أصول البنك المركزي، حتى لا يبقى هناك تغيير مستمر في السرد حول حجم هذه التعاملات.




إعادة هيكلة القطاع المالي

في خطة الظل التي يطبقها مصرف لبنان وفي ظل القطاع المالي والمصرفي «الزومبي» السائد حالياً في لبنان، لا يمكن انعاش الاقتصاد والعودة الى اسواق راس المال العالمية ولا جذب الاستثمارات الاجنبية المباشرة. لذا، فان المدخل الوحيد لإعادة تأهيل البلد في العالم المالي الدولي هو الاعتراف المسبق والكامل بالخسائر في دفاتر القطاع المالي ( البنك المركزي والمصارف). وعلى وجه التحديد، يجب على الحاكم القادم أن:

أ- يصدر، بالتعاون مع سلطة مصرفية مناسبة لحل النزاعات، إطار عمل ومبادئ محاسبية واضحة لجميع البنوك لتعمل بموجبها. وبناء عليها، تتم مراجعة جودة الأصول من قبل شركة مستقلة. وعلى هذا الأساس، ستحدد سلطة حل النزاعات هدفاً لكل بنك لإعادة الرسملة، وعندها يشرف الحاكم المقبل على ترميم قطاع مصرفي يتماشى حجمه مع احتياجات الاقتصاد اللبناني.

ب- ان يخاطب الشعب مباشرة حول وضع ودائعهم ومعدلات الاسترداد التي يمكن توقعها من عملية اعادة هيكلة الديون والنظام المالي (مصرف لبنان والمصارف التجارية). فعلى الحاكم المقبل أن يكون شفافاً حول الأدوات التي سوف يعتمدها لتحقيق أقصى قدر من هكذا انتعاش (استعادة ودائع) من دون تكرار سياسات شراء الوقت المضرة للناس مودعين وغير مودعين.

ج- ان يحتفظ بمدقق جنائي معترف به لإجراء تدقيق حول هيكلية الودائع من اجل تحديد كافة أنواع الودائع غير المشروعة من بين أمور أخرى. وعلى الحاكم المقبل أن يوفر الغطاء المناسب لشطب هذه الودائع غير المشروعة في سياق اعادة هيكلة البنوك. وعليه خصوصاً تقديم نتائج التدقيق الجنائي الى وزارة المال من اجل تحديد كافة اللبنانيين الذين لم يسددوا ضريبة الدخل، ما سوف يمكّن الوزارة من فرض التعديلات الصحيحة، وبالتالي تقليص الفجوة المالية الراهنة وزيادة امكانية فرص المودعين الشرعيين.

د- ان يلتزم فوراً بوقف كافة أنواع عمليات الهندسات المالية مع المؤسسات المالية التي تستخدم المال العام ما لم يتم تعويضها حقاً ( مثل المساهمات وأدوات الدين بأسعار السوق).




تبني سياسات نقدية تتماشى مع احتياجات الإقتصاد


لقد أغرق البنك المركزي نفسه، خلال العقود الثلاثة الماضية، في منطقة مجهولة وغير تقليدية متعمقاً في العديد من السياسات شبه المالية، وراعياً قطاعات محددة من الاقتصاد وممتلكاً لأصول غير تقليدية ومنخرطاً في معاملات جانبية مشكوك فيها مع المؤسسات المصرفية التي كان يتوجب عليه تنظيمها.

وعلى الحاكم المقبل أن يكون صارماً في قيادة القطاع المصرفي وتطوير السياسة النقدية. وبشكل أكثر تحديداً، يتوجب عليه أن:

• يوجّه في أول يوم عمل له، إنذارا الى الحكومة ويمنحها 90 يوماً لتمتثل بشكل مطلق لأحكام قانون النقد والتسليف في ما يتعلق بعدم تمويل الدولة من مصرف لبنان. حيث يتعين على الحاكم المقبل أن يخرج من الحيز المالي والامتناع فوراً عن اعتماد أي سياسة شبه مالية.

• يلتزم باقتراح حوكمة جديدة للقطاع المصرفي بدءاً من السلطات الرقابية. وهذا يشمل التزاماً بعدم التدخل في عمل هيئة الرقابة على المصارف ومنحها استقلاليتها الكاملة مع نقل مقرها بعيداً عن البنك المركزي وضمان مساءلتها أمام هيئة برلمانية؛ واقتراح تغييرات على القوانين التي أنشأت هيئة التحقيق الخاصة SIC والتنحي عن رئاسة الهيئة ومنحها استقلاليتها التامة بعيداً عن البنك المركزي وجعل قراراتها قابلة للإستئناف والمساءلة أمام هيئة برلمانية. وتطبيق الأمر ذاته مع هيئة الأسواق المالية CMA.

وعلى الحاكم المقبل أن يلتزم بالمشاركة الكاملة في هيئة مستقلة تعيد تصميم حوكمة القطاع المالي (مصرف لبنان والمصارف التجارية) في فترة لا تتعدى الـ120 يوماً من استلامه المنصب، ويتضمن ذلك مراجعة كاملة لقانون النقد والتسليف والالتزام بقبول النتائج وتنفيذها.

• يلتزم بإنشاء هيئة منفصلة لتسوية أوضاع البنوك وتكون مستقلة عن البنك المركزي لإدارة هيكلة القطاع المالي بفعالية.

• يلتزم بقمع جميع الجهات الفاعلة في القطاع المصرفي بغض النظر عن ولائها السياسي، والزامها بالإمتثال لقواعد وأنظمة البنك المركزي. وعليه أن يعلن على الملأ أن جميع المنظمات التي تجمع الأموال من الأفراد وتقرض أخرى ( مثال القرض الحسن)، وبأي شكل من الاشكال، أن تخضع للمساءلة من قبل البنك المركزي.

• يلتزم باتخاذ إجراءات صارمة ضد المعاملات النقدية (الكاش) في القطاع المصرفي وتعزيز الالتزام بقواعد الامتثال الدولية.

• ينخرط في سياسة مسؤولة لتوفير السيولة للسوق وتحديد أسعار الفائدة من خلال وسائل السوق التقليدية فقط.

• يسهل طريق تعويم العملة (وفقاً لما يتطلبه القانون) بمساعدة من صندوق النقد الدولي. ويجب عليه ان يلغي فوراً أسعار الصرف المتعددة التي خلقها المصرف المركزي نفسه، وإلغاء منصة صيرفة، وإلزام كافة المشاركين بالسوق من بنوك وافراد وصرافين بالتداول على منصة عامة تعرض الأسعار وحجم التداول في الوقت الفعلي، والتوقف فوراً عن استخدام «صيرفة» كأداة «بونزي» لإعادة توزيع الدخل من مجموعة من الناس (على الأغلب من المودعين) الى مجموعة أخرى (اغلبها من موظفي الخدمة المدنية).

• يعتمد نهجاً احترازياً كلياً لإدارة القطاع المالي لتجنب انهيار نظامي آخر أو التعرض غير المبرر لمدين واحد.

• يلتزم بالحفاظ على مخزون الذهب كداعم لثبات القطاع المالي، والتوقف عن استخدام سيولة العملة الصعبة الموجودة في النظام إلا في حال كانت طرفاً في سياسة وطنية كجزء من برنامج صندوق النقد الدولي.

• يلتزم بالتخلي عن جميع الأصول غير التقليدية من الميزانية العمومية للبنك المركزي (مثل ملكيته لشركة الطيران والكازينو) حتى يتمكن من تأدية دور بنك مركزي وليس دور مدير أصول.

يجب أن يكون الحاكم المقبل مسؤولاً فقط أمام علم لبنان، وأن يعمل من اجل الصالح العام للشعب اللبناني، ويحترم القوانين بالكامل. ويعلن عن جميع المعاملات التي تتضمن تدخلاً من قبل المسؤولين العامين؛ وعليه أن يكون جاهزاً لتحصين ذاته خلال السنوات الست القادمة في البنك المركزي من اجل حسن إدارة هذه المؤسسة العامة، وحماية نفسه من أي تدخل سياسي او مصرفي. ويجب أن يبنى علاقات مع البنوك من ملاك وإدارة وفق المعايير الدولية.

سوف يكون الحاكم المقبل مسؤولاً أمام الشعب عن كيفية أدائه حول كافة هذه النقاط، حيث سيقوم المجتمع المدني بمتابعة وقياس الأداء ونقله الى العامة.

لا توجد فرصة ثانية لاستعادة هذه المؤسسة الكبرى لسجلات الأداء التاريخي الذي كان من دون شائبة بفضل الحكام السابقين لمصرف لبنان: فيليب تقلا والياس سركيس وميشال الخوري وادمون نعيم.

«عادة ما تبدأ الحياة النزيهة بقول «لا للمساومة» ومواجهة الحقيقة وفعل الصواب حتى في أصعب المواقف. وقيل انه اذا كان لديك نزاهة فلا شيء آخر مهم، ولكن من الصحيح أيضاً انه اذا لم تكن لديك نزاهة فلا شيء آخر مهم» (ستيف غودير).



(*) خبير مالي ومصرفي ومستشار وزير المال السابق


MISS 3