كلما مرّت ذكرى شهداء الصحافة في 6 أيار يخطر في بالي ما أمتنع عن الجهر به كل عام. والسؤال بسيط وشديد الصعوبة في آن: كيف لأهل المهنة المختلفين في السياسة وقيَم الحياة أن يلتقوا في هذه المناسبة متجاوزين هذا القدر من الشقاق؟
ليس المطلوب جواباً واضحاً عن إشكالية عميقة يُفيدها الالتباس. وربما يُستحسن دفن الأمر "في أرضه" تلافياً لفجاجة الصراحة. فلا بأس أن يبقى الجسم الصحافي موحداً على حدث حصل قبل 107 أعوام بدل أن يكرّس انقساماته الحالية على الخيارات الوطنية وعلى القيم الانسانية المتعارف عليها في المجتمعات المتحضرة.
رغم ذلك، فإن المشاهد الاستعراضية تَستدرج الاستفزاز، ويتحوّل التباري في الإنشاء واستخدام محسِّنات البديع والبيان وخزاً في مكان حسَّاس أو شوكة في الحذاء، خصوصاً حين يتفجر التفجع على الشهداء من مزايدين تتيح سيرتهم السياسية والمهنية افتراض أنهم لو عاشوا زمن بني عثمان لسبَّحوا بحمْد السلطان واعتبروا "سفربرلك" رحلة أصدقاء أو "فرضَ عين" واجب الأداء.
ولا يعتقدنَّ القارئ أنني سالكٌ مسالك النقد الهدَّام أو فاتحٌ ملفات أو رام فتنة بين حملة الأقلام. فالاكتشاف لا يحتاج فانوس "الذكاء الاصطناعي" لاستحضاره في الحال، بل تكفي العودة الى المواقف والمقالات عبر محرك "غوغل" التقليدي لنُدهَش من كمّ الرياء، ولنتأكد من أن "منظومة الأشرار" كانت ولا تزال مهيمنة أيضاً على مجمل سلطة الكلام لولا بعض الاستثناءات.
لا أبيض أو أسود على الإطلاق. لكن يصعب الاقتناع بأن الذين يعتبرون السيادة من الكماليات، بعدما أراقوا ماء وجوههم دفاعاً عن الوصاية السورية 15 عاماً كاملة، يحق لهم تصدُّر مناسبات الحريات لتذكُّر الذين شنقهم جمال باشا "السفاح" بتهمة السعي الى التحرر من نير الاستعمار وصولاً الى كوكبة شهداء الرأي الذين سقطوا منذ "ثورة الأرز" دفاعاً عن استعادة السيادة والاستقلال. وكذلك يستحيل الشعور بالزمالة مع الذين يمجّدون العنف الأهلي ويعتبرون الجريمة السياسية من العاديات التي يتعايشون معها بعد سرد المبررات!
أبسط مما تقدم، اختبارٌ عملي تمثَّل في جريمة 4 آب. هنا يكفي أن يقف الصحافي في صف معرقلي العدالة محمَّلاً بجملة ذرائع، أو مدافعاً عن رافضي الخضوع للتحقيق لأسباب طائفية أو حزبية، لتتسع الهوة بين أهل المهنة وليدرك من يتمسكون بمبدأ "رفض الإفلات من العقاب" بأنهم في مواجهة أدوات سلطة وميليشيات وليس أصحاب رأي لهم حق الاختلاف.
حبذا لو يحتكم أهل الصحافة الى "مُدوَّنة سلوك" تشكل الجامع المشترك بينهم وبديلاً عن الانقسام. فيتضامنون أولاً ضد أي تقييد لحرية التعبير، ثم يتفقون على إدانة أي نوع من الجرائم، وعلى أن الدولة صاحبة الحق الحصري في استخدام العنف تحت سقف القانون، مثلما يُجمعون على أن الدفاع عن سرَّاق المال العام والخاص مسألة تهبط بوسيلة الإعلام وأصحابها وبصحافييها الى أسفل الدركات وتجعل المهنة محتقرة من الناس.
نعلم أننا نطلب المستحيل كون الشرخ عمودياً في لبنان، ولأن أهداف أصحاب وسائل الإعلام لا تتطابق عموماً مع أخلاقيات المهنة، لكن يبقى أن النزاهة الفكرية خيار فردي لا يدركه سوى الأحرار، وهؤلاء أوْلى باستذكار شهداء 6 أيار.