حسان الزين

مهدي يهاجر تاركاً البلد بلا رأس

13 أيار 2023

02 : 00

سافر مهدي. هاجر.

لعل ذلك مفيد له، ومريح.

لكنّ مهدي كريّم الطيّب المهضوم، الذي دعانا إلى عرسه في عزِّ كورونا، ولا ينفك يذكّرنا بفخامة الاحتفال وضخامة الحدث، لن يعمل في مهجره في مهنته، الصحافة، ولن يتابع دراسته العليا في العلوم السياسيّة.

وليس هذا مصدر الحزن الوحيد.

مهدي استهون ترك أسرته، والاستقالة من وظيفته، لا لكي يعيش بكرامة فحسب، بل لأن البلد فقد الطمأنينة. فلا الحاضر ذا معنى، ولا المستقبل واضح أو مضمون.

وليس هذا مصدر الحزن أيضاً.

فنحن، في هذا البلد الترانزيتي، وهذا البلد المعلّق على حبل المجهول، والموقوف للأزمات، اعتدنا على مثل هذه الظروف، وعلى مثل قرار مهدي. اعتدنا ذلك، وعاد لا يفاجئنا.

هكذا، يمكن اعتبار سفر مهدي، أو غيره من شباب هذا البلد، قصّة عادية تتكرّر منذ نحو قرن ونصف. نفرح له، ونطمئن إلى أنه سيلقى الخير والسعادة حيث يذهب، خارج لبنان.

وأكثر من ذلك، ترانا نسعد لكونه سيحوّل أموالاً إلى هذا البلد الذي كان يوماً قجة المهاجرين. وبذلك، يشارك، كما تقول الأسطورة، في الاقتصاد الوطني، وفي إبهاج الساسة والاقتصاديين والماليين عموماً الحريصين على استمرار تدفق العملات الصعبة إلى الوطن الغالي.

وليس هذا مصدر الحزن أيضاً.

فمهدي الذي حاز الماجستير بجدارة وجد أن متابعته دراسته في الجامعة اللبنانية، الجامعة الوطنية، تحتاج إلى أن يكون محسوباً على فريق من قوى السلطة التي تتقاسم المقاعد.

وهذا أيضاً ربما يُقال إنه ليس مصدراً للحزن، ولا يَستحق أن يكون سبباً للهجرة. وربما يقول أصحاب هذا الرأي التطبيعي مع قرض قوى السلطة الدولة ومؤسّساتها وإداراتها وثرواتها إنه عادي ولا جديد فيه. وربما يُقال إن الجامعة اللبنانية ليست آخر الدنيا، وهي في وضع لا تُحسد عليه، ويمكن للطالب إذا ما أراد متابعة الدراسات العليا أن ينتسب إلى إحدى الجامعات الخاصة، وما أكثرها، وهذا أفضل له، وكفى المؤمنين شرّ القتال.

لكن المسألة ليست بهذه البساطة.

المسألة تجاوزت قرض (أو قرط) قوى السلطة الدولة ومؤسّساتها وإداراتها وثرواتها، وتجاوزت حتى التحاصص الطائفي وطلب الواسطة. فأن تحتكر قوى السلطة مقاعد الدراسة والشهادات، وليس الدولة والوظائف العامة فحسب، هو واحدة من العلامات الكثيرة لقبض تلك القوى على البلد... وفبركته.

وتتفاقم المأساة وتتكشف. ففيما اختار مهدي الذي انخرط بحماسة في انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 الهجرة، يَحسب كثيرون أن "انتخاب" (كلمة مضحكة) رئيس للجمهورية سيحل المشاكل كلّها: يُحرر الدولة ومؤسّساتها، يطبّق الدستور وينفذ القوانين، يحترم القضاء واستقلاليّته، يكافح الفساد، يعاقب المرتكبين، يُنشّط الاقتصاد والاستيراد والتصدير، يُعيد الليرة إلى سابق عهدها، يضبط الأسعار، يوقف السوق السوداء، يُطلق أموال المودعين، يحفظ ثروة لبنان، يُقر استراتيجية دفاعية، يُصلح علاقات لبنان بالعرب ويضعه مجدداً في خريطة العالم، ينظّم السير، يستقبل السيّاح العرب والأجانب، ويُعيد المهاجرين ومنهم مهدي، أو على الأقل يضمن ألا يُسطى على أموالهم...

مصدر الحزن هو أن مهدي يهاجر تاركاً البلد بلا رأس.


MISS 3