نوال نصر

المعتصمون هتفوا "ما تجرّبونا" والنواب رفعوا الورود البيضاء

من يوازن بين موازنة مثقوبة ووجع الناس؟

18 تموز 2019

10 : 28

لحظات مع سعد الحريري
هناك مجرم لديه ضحايا وهناك ضحية سببها مجرم. فكيف يُوازن الإنسان، في تركيبته، بين الحالتين؟ وكيف وازن المجلس النيابي ومحيطه أمس بين مشهدية من "يهندسون" موازنة مثقوبة وبين من يبصمون، بحاستهم السادسة، أنهم سيدفعون ثمن هذه الموازنة من اللحم الحيّ؟



هنا ساحة الشهداء. هنا المجلس النيابي والحمام الزاجل ووسط بيروت. وهنا حديقة سمير قصير وتمثال رياض الصلح، وهنا تعوم أحلامنا من جديد وتنبسط تفاصيل ثورة داعبتنا، ذات آذار، بقوة، وهنا ميكروفونات تهدر بأصوات عسكريين متقاعدين وأساتذة يخشون على أجور وتقاعد ومستقبل ومصير.

رؤوسٌ مكللة بشيبٍ شديد ووجوهٌ حفر العمر خطوطه عليها ووجعٌ بالغ بليغ... وقوى أمن وجيش ومخابرات وشرطة إستقصاء... و"عسكر عَ مين"؟ على العسكريين؟ يشيحُ عسكري، في سن العشرين، نظره عن عسكريّ في سنّ أبيه بلا قدمين هامساً: يا حرام!




وردة الى ابراهيم كنعان




جلاد وضحية

لماذا كلّ هذا الشعور العارم، عند كثير من اللبنانيين، بأنهم ضحايا وبأن دولتهم "جلّاد"؟

ننحو بأقدامِنا صوب المجلس النيابي، الذي يستعدّ لاستقبال "ممثلي الشعب" لمناقشة موازنة 2019. الزحمة أقل بكثير من اليوم العادي. الطريق مفتوحة. و"الداون تاون"، مثل العادة، مقفر. ومقهى "غراند كافيه" يعرض النرجيلة بثمانية آلاف ليرة. صولد وأكبر.

مؤسسة الفكر العربي أغلقت أبوابها وغادرت. مركز المعرفة الإسلامي- دار الفتوى شاغر. بنك بيبلوس فارغ. دكانة "بليس هاوس" تعيش من قلة الموت. والغبار كثيف على مقاعد وطاولات "مقهى ومطعم بوابة بيروت". يبدو أنه أقفل منذ زمن. نتابع سيرنا في اتجاه مجلس النواب. الساعة العاشرة صباحا. الحرّ شديد. الصحافيون يصلون. مراسلة "أو تي في" ترتدي نفس فستان مراسلة "أم تي في". لونٌ أخضر ملفت. وصل محمد بلوط. وصل علي دياب. ألقيا السلام والتحيات والقبلات على الصحافيات والصحافيين.

في تمام الساعة العاشرة والربع دوت زمامير وأصوات "تشفيط" سيارات "جي أم سي" ونيسان. يبدو دولة رئيس المجلس نبيه بري قد وصل. أطفالٌ من ذوي الإحتياجات الخاصة يحملون ورودا بيضاء وصلوا برفقة أساتذة ومعلمات. رجلٌ يعرّف عن الوفد "نحن الإتحاد الوطني لشؤون الإعاقة"، نضم مئة ومؤسستين، ونريد أن نطالب بحقوق الأطفال. إنتشر الأولاد بين الصحافيين. وردة لكل صحافي وصحافية وكلام حفظوه قبل مجيئهم.




زمن الحساب يا شباب




دعمكم إستمرار حياة

مشهدُ الورود البيضاء جميل لكن مشهد جعل الأطفال "يشحذون" حقوقهم قبيح. بدأ النواب بالتقاطر. المصورون يسألون في شكلٍ متكرر: مَن هذا؟ وجوهٌ كثيرة دخلت البرلمان، ولم تظهر من حينها، لا تزال مجهولة من المصورين. النائب فريد البستاني نال أول وردة بيضاء مذيلة بكتابة "دعمكم إستمرار حياة". ماريو عون وابراهيم كنعان وصلا معا. آلان عون وحكمت ديب وصلا معا. سليم عون بدا مثل "الروبوت" وهو يتحرك. شوقي دكاش وصل. النواب يرتدون "الجاكيت" حين يخرجون من السيارة والمصورون يرددون: "هذه الحركة صنعها ... البارحة وهذه الجملة رددها ... أمس".

المصورون والصحافيون يعلقون على حركات النواب من الجنسين. النائبة بولا يعقوبيان وصلت "محمّلة" كتابا سميكا وحقيبة يد وحقيبة حاسوب ووردة بيضاء. كل النواب حُمّلوا ورودا بيضاء دلالة سلام لكن الجلسة، بشكلِها، لم تكن تُبشّر بسلامٍ ينتظره اللبنانيون.


بقبلة من بيار بو عاصي



بيار بو عاصي، المسالم شكلا والمحبوب ضمنا، توجه الى الأولاد. حملهم. وعدهم. ضحك معهم وقبّل الكثيرين منهم. وأمسك بالوردة البيضاء وضمها الى صدره. طيّبٌ هذا النائب. جوزف إسحق، نائب بشري، وصل أيضا وابتسم لبو عاصي الذي ناداه "كيفك زوز".

جميل السيّد لاقى الأطفال قبل دخوله الى المجلس قائلا لهم "مصاري في وفي سوء إستخدام للمصاري". لم يفهم الأطفال كثيرا عليه. وتتابع الوصول: فيصل كرامي. هادي أبو الحسن .علي عمار. نادته مراسلة الـ "أو تي في" كثيرا: "يا حج يا حج". لم يجب. رفع هاتفه الخليوي ومشى.

الحج محمود، شقيق رئيس مجلس النواب، وصل. هو مدير التشريفات في المجلس. يُعلق أحد الصحافيين بعدما تبادلا التحية. ووحده الوزير جمال الجراح بدا أصفر اللون وقد خسر كيلوغرامات عدة. دعوه ليقترب من الأطفال ويأخذ وردة بيضاء. فكّر. رفع يده محييا من بعيد ودخل الى المجلس.




اعتصام الأساتذة أيضًا




بوصول الرئيس سعد الحريري ساد هرج ومرج واختلط "شعبان برمضان". وبينما كان يهمّ بالدخول ناداه المسؤول عن الإتحاد الوطني لشؤون الإعاقة: سعد... سعد... ناطرينك دولة الرئيس. إلتفت الى الوراء وعاد أدراجه بخطى ثابتة يتبعه أكثر من عشرة مرافقين. حمل طفلة قبلها برأسها وغادر من دون أن ينبس ببنت شفة. الطفلة اسمها فاطمة وباتت بعد قبلة الرئيس سعد الحريري بحسب أعضاء في الإتحاد "أشهر فطومة في لبنان". قرع الرئيس نبيه بري الجرس إيذانا ببداية الجلسة لكن النواب لم يلتزموا بالوقت. زياد حواط، ياسين جابر... واستمرّ توافد النواب إما مشيا أو عبر سياراتهم التي تقف أمام المدخل الرئيسي... مشهدٌ يتكرر مع اختلاف في الأسماء والأشكال والإنتماءات.


نتركهم يناقشون شؤون الموازنة على أمل أن يوازنوا!

مركبات فوج الإطفاء الحمراء في الجوار كثيرة. ثمة مركبة برتقالية. وأصواتٌ ترتفع آتية من جهة ساحة الشهداء. حديقة سمير قصير مليئة بالعسكر. والعبارات المحفورة على رصيف الوسط تلفت أنظارنا اليوم أكثر من أي يوم: "بيروت ماتت ألف مرة وعاشت ألف مرة". نحاول أن نصدق. نريد أن نصدق.


باص أحمر يقف قرب جامع محمد الأمين. من هذا الباص يمكن للسائح أن يرى 15 نقطة في بيروت بكلفة 33 دولارا. ثمة سياح خرجوا للتوّ من الجامع وينوون الإنتقال الى كاتدرائية مارجرجس المارونية ثم درج مارنقولا ومتحف سرسق وفيلا عودة و"أ ب ث" الأشرفية ثم "أ ب ث" فردان والحمامات الرومانية والزيتونة باي... لبنان، يا عالم، جميل لكن ماذا لو سمع السياح أصوات وجع العسكر المتقاعدين؟ وماذا لو سمعوا أصوات وجع الأساتذة؟ نحمد الله أنهم لا يعرفون العربية كي لا يفهموا لا ما يسمعون ولا ما يقرأون.



الحاج علي عمار ممسكا بوردته



الوجعُ كبير. وجع المعتصمين والمتظاهرين كبير ووجع مئات آلاف اللبنانيين في بيوتهم أيضا كبير. "أتى زمن الحساب يا شباب". العسكريون المتقاعدون كتبوا هذا وانطلقوا يتحدثون عن الصفعات التي يتلقونها من دولةٍ آمنوا بها. حكوا كثيرا. صراخ الأساتذة اختلط بصراخ العسكريين المتقاعدين وكلا الطرفين يصرخ: "ما تجربونا ما تجربونا... الآتي أعظم"!



نعود أدراجنا. نتمهل أمام تمثال الشهداء. الورود، في جوار التمثال، يبِست ووحدها وردة بنفسجية شمخت على الرغم من كل القهر. اللبنانيون وردة ستبقى بنفسجية. همس رجل مسنّ.


MISS 3