نوال نصر

بين "أمان البيت" وتدابير الشارع

بيروت على وقع "الكورونا"... 100 دولار تُثلج القلب!

19 آذار 2020

03 : 35

الطرقات "قفرة نفرة" (تصوير رمزي الحاج)

اللبنانيون أخذوا أقصى الحيطة والحذر. سبقوا "دولتهم" وأعلنوا الطوارئ الصحيّة ونووا على البقاء سالمين. اللبنانيون اتبعوا الإرشادات الصحية العامة ووثقوا لأول مرة في تاريخهم أن فنجان قهوة مع كتاب هو الفعل الأسلم. اختاروا السلامة ولازموا المنزل.

النكات تهبط مثل "الشتي". اللبناني إنسان "عييش" لهذا اختار أن يبقى في البيت ويعيش رغماً عن "الكورونا". روائح الحلويات الشهية تنبعث من البيوت. الأمهات فتحنَ كتب الطهي وبدأنَ في تجربة كلّ ما يُخفف من وطأة قساوة هذه المرحلة على عائلاتهنّ. والطعام حين يتم طهيه على مهل تُصبح نكهته أفضل. وللنساء، في هذه المرحلة، كلّ الوقت في بيوتهنّ ليصنعنَ، إذا أردنَ، ما هو أفضل.

بعيداً قليلاً عن البيوت، ماذا في شوارع بيروت؟ وماذا يفعل البيارتة وسكان العاصمة؟ وما هي الإحتياطات التي اتخذت في الشوارع ومحال السوبرماركت؟

نقصد "فهد". نقيب أصحاب السوبرماركت نبيل فهد يجول بين الزبائن. وعند الباب، عند المدخل، شابة تأخذ حرارة الزبائن، 6.6 وتلات شحطات. 6 ونصف. ومن تعدت حرارته الثماني درجات يُمنع دخوله. إجراء جيّد يُطمئن إذا فرضنا أن حرارة الجسم هي الدليل الأولي الى الإصابة بفيروس "كوفيد 19".

الكمامات على الوجوه والقفازات غطت الأيادي وأسعارها باتت نار. ثمة أنواع منها ولكلِ نوع إستخدام ولكل استخدام مهمة. وكلّ القفازات تطير أقوى مما فعلت "رياح التنين" من أيام. نشتري قفازات زرق وبيضاء وقفازات بلا لون وكلّ ما توفر. فالإحتياط واجب وهو قد يطول ويطول ويطول.


صف طويل من الزبائن أمام الصرّاف الآلي



البضاعة اللبنانية مطلوبة أكثر من أي يوم سابق. والناس، حين ترى ناس، تبتعد. و"صوفرة" أكثريتهم، من تحت الكمامات، تشي بأن ومضات العيون تكاد لا تلحق إرتفاع الأسعار.

الشوارع "قفرة نفرة". موظفو بلدية الدكوانة يضعون كمامات على وجوههم. والصلوات تصدح ليل نهار من كنيسة مارجريس في ساحة الدكوانة: السلام عليك يا مريم يا ممتلئة نعمة الرب معك... نسمعها الترتيلة كاملة بصوت جومانا مدور، ونتابع سيرنا على طرقات لبنان.

دولاب السيارة سقط، كمن أصيب فجأة بسكتة قلبية. محطات البنزين مفتوحة لكن "المسمار" الغليظ الذي اقتحم فجأة الكوتشوك يحتاج الى محل لتصليح الدواليب. نجول بحثاً عن محال مفتوحة عبثاً. أصحاب المحال إلتزموا "البقاء في البيوت" وهذا حسن. نفرح أو نحزن؟ نسرح أكثر على ثلاثة دواليب ونصف الى حين نرى ربع باب مفتوح تحت آرمة "ترصرص دواليب". نصلح العطب ونتابع.

عمال بلدية الجديدة اقتحموا للتوّ محال لبيع المحارم الورقية. هو محل يبيع محارم "صنعت في سوريا". يضعون بضاعتهم في المحل على مضض ويغادرون. نصفق لعمال البلدية ونتابع.

سيارات تقف أمام ابواب المصارف لسحب الأموال من أجهزة الصيرفة الآلية الخارجية "آ تي أم". بنك عوده الذي وعد بوضع العملة الأجنبية في تلك الأجهزة لم يفعل لا بل ألغى هذه الخدمة نهائياً. العملة الوطنية وحدها موجودة فيها. ومصارف بيبلوس لم تضع ما يكفي من العملة الصعبة في كل أجهزة الصراف الآلي. نقصد مركز المصرف الرئيسي في الأشرفية ساسين. هناك توجد العملة الأجنبية. وهنالك نشعر ببعض الفرح على وجوه الناس الذين تجمعوا أمام أجهزة الصيرفة الآلية وكم تلوح في البال، في تلك اللحظات، مقولة قديمة متجددة أمام ذاك المشهد تقول "أريد أن أجمع قدراً من المال يكفي لعلاج الأمراض التي أصابتني أثناء جمعه". نردد في قرارة أنفسنا "يا حرام علينا"، ونتابع.

عمال النظافة نراهم في أحياء بيروت. وهناك، تحت جسر الفيات، نرى ثلاثة أطفال يتسولون مع والدتهم ويلهون. لا كمامات ولا قفازات ولا هموم أو توجسات أو مخاوف ولا صدى لكلمة "كورونا". نحسدهم؟ يبدو أن الفقر بالفعل قرين الأمان. ولا فقر أسوأ من الجهل.

العدلية خالية. المتحف خال إلا من رجل يقف كالتمثال أمام المتحف الوطني. ترى هو هنا لمنع الدخول الى المتحف؟ تُرى كم من اللبنانيين، قبل كورونا بكثير، زاروا هذا المتحف؟

الجامعة اليسوعية أوصدت أبوابها بإحكام. السفارة الفرنسية أيضاً. دكان للسمانة قريب فتح بابه وجلس عند بابه، على كرسي من قش، بائع "ختيار". الحياة عادت الى محله مع "تعليق" العمل في المحال الكبيرة.

"الداون تاون" خالية إلا من "رفّ الحمام". الثوار الذين واجهوا جبروت من يظنون أنفسهم "الأقوياء" ارتضوا عن قناعة مواجهة الوباء من بيوتهم. وحسنا فعلوا. ثوان قليلة ونقطع الدرب بين الداون تاون والكورنيش البحري. بلدية بيروت تعمل 24 ساعة على 24 على طول الكورنيش. البحر هادئ وثمة أناس، يفترض أن يكونوا ناضجين ويفهمون، قرروا ممارسة رياضة المشي. هؤلاء "بلا مخّ". وقبل أن نغوص بهذه الفكرة نرى شرطة البلدية ينذرونهم بالعودة من حيث أتوا. يبتعدون لكن على مضض. وأصوات الشرطة بوجوب إخلاء المكان تُطمئن.

نستدير نحو الشيفروليه. طريق بعبدا بلا حياة. وبعض السيارات التي تمرّ تطلق زموراً قوياً، مع شتيمة، إذا عرقلت مسارها مركبة تتريث. هو الخوف؟ هو القلق؟ أم هي عصبية الناس الذين فقدوا القدرة، حتى وهم يطلقون النكات، على استيعاب كلّ ما يدور حولهم. الله يحمي هؤلاء ويحمي لبنان.

"سيتي سنتر" أقفلت أبوابها باستثناء مدخل واحد يقود مباشرة الى متجر المواد الغذائية. حاجز قطع وصل الدخول ألغي. ندخل بلا بطاقة دفع. ونتوجه الى مكان واحد مضاء أما بقية "السنتر" فأغلق ونسي أصحابه إعلانات "الحسومات" على الأبواب. نفكر بهؤلاء كيف سيدفعون أجورهم لكننا نعود ونفكر بمقولة "بالرزق لا بأصحابه". المهم أن يبقى هؤلاء أحياء. عاملان بنغلادشيان يعقمان كل سلة بمفردها. والنساء يصررنَ على المزيد من التعقيم. رفوف فارغة وبضاعة توضع جديدة على الرفوف. والأسعار ترتفع يومياً. والعمال يرحبون بالزبائن فرداً فرداً: أهلا بكم في كارفور. ويتحدثون ويسهبون عن تعليمات الإدارة بوجوب اتخاذ أقصى الإحتياطات، ما عدا واحد من الشبان الجالسين وراء الصناديق. نراه يتسلى بالحديث مع إمرأة تسأله: لماذا لا تضع كمامة حفاظاً على نفسك؟ يجيبها: البارحة كنت في مستشفى رفيق الحريري الحكومي وأخبروني أنني "عال العال". تُصاب المرأة بالهلع ويقهقه هو من الفرح. وعبثاً يقنعها أنه يمزح معها. نخرج من هناك كما دخلنا بلا بطاقة إذن.



متسوّلون لم يُخفهم "كورونا"


نعود الى سن الفيل. مصرف سوسييته جنرال الفرع الرئيسي ينغل بالزبائن. هذا الفرع فُتح أمس وموظفوه في حال هلع. وصفّ الوقوف أمام الصراف الآلي الذي يعطي "عملة صعبة" طويل. والمواطنون يحاولون أن يحيدوا بوجوههم عن بعضهم البعض. والكلّ الكلّ يمكنه، مهما كان يحوز في رصيده، سحب مئة دولار فقط لا غير. ألغى المصرف سقوفات سحوبات الدولار لديه وجعلها مئة دولار. يُردد الزبائن "أمرنا لله" وينظرون الى مكان واحد، في اتجاه واحد، نحو الصراف الآلي المخصص للدولار. فجأة يرتفع الصراخ بين زبون وموظف. الموظف، المحصن بقفازين وكمامة، يطالب الزبون، بقوة وانفعال، أن يبتعد عنه، والأخير يقول له: سألتك سؤالا أجب ولا تصرخ. يحتدم النقاش بين الإثنين ويأتي رجال الأمن ومديرة الفرع ويشارك زبائن آخرون في "الأخذ والردّ". الكلّ متوترون. والكلّ لا يطيقون الكلّ. نبتعد من المكان الذي يشعر كلّ من فيه أنه ضحية.

نقصد صيدلية. ثمة ستار أبيض كبير يمنعنا من الدخول. صاحبة هذه الصيدلية اتخذت بدورها "تدابير الوقاية". تسألنا ما نريد من بعيد ونجيبها من بعيد. الوقاية أمان.

نعود الى البيت؟ نعود الى الحصن الآمن؟ نعود الى حيث يفترض أن نكون جميعاً؟ ننظرُ حولنا الى "والد" يضع قارورتي غاز في مركبته مع أكوام من المواد الغذائية. ننظر الى المحال المقفلة. نتذكر كل العيون التائهة التي التقينا بها. ونعود الى البيت. هنا، وحتى إشعار آخر، الأمان.


MISS 3