حسان الزين

للمرة الأولى في تاريخه يذكر أنه انحاز للفرنكوفونية و"الثقافة القومية للدولة البرجوازية"

متحف سرسق من "الدلع" و"الغنج" إلى الإندماج بالمدينة

20 أيار 2023

02 : 00

شيّد قصر نقولا سرسق في 1912 وافتتح متحفاً في 1961 (تصوير فضل عيتاني)

لزيارة متحف سرسق متعة خاصّة، مضاعفة. فالقصر الذي أوصى صاحبه، نقولا إبراهيم سرسق، في 1952، بأن يتحوّل إلى متحف بإدارة بلدية بيروت، يأخذ الزائر في رحلة تاريخية إلى العالم الذي عاشه أثرياء هذه البلاد منذ القرن التاسع عشر وما قبل. والمتحف الذي افتُتح في 1961 يأخذ الزائر في رحلة عبر تاريخ الصراع الذي شهده لبنان بين الأزمات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والأمنية وبين الفن والفنانين الذين يتأثّرون بالظروف مثل المواطنات والمواطنين. ففيما يمثّل المتحف في نظر كثيرين الترف والبرجوازية، تروي سيرته أنه واجه صعوبات وتحدّيات وجودية، آخرها انفجار مرفأ بيروت الذي "هزّه" وأضرّ به وأغلقه، ما اضطره إلى البحث عن تمويل للترميم وإعادة التأهيل.



غرفة صغيرة ما زالت على حالها. جدران مكسوّة بالخشب البني الغامق. وفوق الخشب، تظهر الجدران الحجرية وصولاً إلى السقف المرتفع الذي تتدلى منه ثريا ناعمة. هناك تتشكّل مساحة بيضاء مثل غيمة أو سماء. تخترقها، في الواجهة المقابلة للباب، قنطرتان قوطيّتان مزخرفتان بالزجاج الملوّن مثل تاج فوق المكتب الخشبي الصغير. تتخلل الجدران الخشبية، بتوزيع متناسق، خزائن وأرفف عليها كتب وتحف. وبالتناسق نفسه، عُلّقت في القنطرتين خلف المكتب أيقونتان، ووزّعت على الجدران لوحاتٌ فنّيةٌ صغيرةٌ.



التمثال الأول للشهداء في باحة متحف سرسق



ما افتقده نقولا سرسق

في هذا المكتب، ربّما قرّر نقولا إبراهيم سرسق (1875 - 1952) أن يحوّل قصره إلى متحف. فنقولا سرسق شُغف بالفن، وتابع تيّاراته المعاصرة في أوروبا وامتداداتها في لبنان، واقتنى كثيراً من منتجاتها. وقد جمعته الصداقة بعدد من رسامي زمانه، ورسمه بعضُهم، فيما أحب هو، مثل كثيرين من أثرياء تلك الأيّام، أن يرسمه الفنان الهولندي كيس فان دونجن. ولوحته التي ألفها بين 1926 و1930 (تقريباً)، وتظهره كاملاً بكامل ثرائه وعصريّته، ما زالت محفوظة في المتحف، وقد رُممت بعدما أصابتها جروح آخرها جراء انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020.

آنذاك، في الأربعينات ومطلع الخمسينات، السنوات الأخيرة من عمر نقولا سرسق، عاش لبنان بعد الاستقلال أجواءً سياسيةً وأمنيةً مضطربةً. ثورة مسلّحة أطلقها الحزب السوري القومي الاجتماعي من دمشق، انتهت بتسليم الرئيس السوري حسني الزعيم مؤسس الحزب أنطون سعاده للسلطات اللبنانية التي أعدمته في 8 تموز 1949. ثورة ثانية في 1952 نظمتها المعارضة بقيادة كمال جنبلاط وكميل شمعون ضد عهد الرئيس بشارة الخوري وشقيقه السلطان سليم المتّهم بالفساد واستغلال السلطة في خدمة عائلته وعدد محدود من العائلات التي تشكل الكونسورسيوم الذي يحتكر الاقتصاد والثروة.

مقابل ذلك، كانت بيروت تشهد حركة فنية وثقافية: صليبا الدويهي، جورج داود قرم، بول غيراغوسيان، شفيق عبود وخليل زغيب وآخرون نظّموا المعارض. ومع هؤلاء، أصدر رفيق خوري "ديك الجن: الحب المفترس"؛ وقضى الشاعر عمر الزعني في السجن 42 يوماً بسبب قصيدته الساخرة ضد التجديد للرئيس بشارة الخوري (1949)؛ والشاعر فؤاد غابرييل نفاع نشر "قصائد" بالفرنسية (1950)؛ والشاعر ميشال طراد أصدر "جلنار"، والقاص سعيد تقي الدين كتب "غابة الكافور" (1951). وقد تلى ذلك إطلاق الأديب سهيل إدريس مجلة "الآداب" (1953)، وإطلاق الشاعر يوسف الخال مجلة "شعر" (1957) التي تحلق فيها الشعراء أنسي الحاج وأدونيس وشوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة وبدر شاكر السياب ومحمد الماغوط وآخرون. وفي 1951، أُنجز الفيلم السينمائي اللبناني الأول "عروس لبنان" لمحمد سلمان.

وسط هذا، افتقد نقولا سرسق لمؤسسة تحتضن الفنانين اللبنانيين وتحفظ آثارهم مع زملاء لهم من العالم وتعرضها للناس. وقد اتخذ قراره مانحاً واحداً من أفخم قصور بيروت للقيام بهذه المهمّة. وعلى رغم وضوح الوصية التي تشدد على تحويل القصر إلى متحف، بإدارة رئيس بلدية بيروت، إلا أن الدولة اللبنانية التي لا وصاية لها على القصر بحكم الوصية حاولت تغيير وجهة استخدامه. جعلته قصراً للضيافة، واستقبلت فيه رؤساء وملوكاً. لكنّ مجموعة من الحريصين على تنفيذ الوصية أصرّت وواجهت حتّى استعادت القصر الذي افتتح متحفاً في 1961. وخلال تلك السنوات، نُظِّم باسم متحف سرسق "أوّل متحف متخيّل في العالم"، في مبنى قصر الأونيسكو في بيروت، في 1957، وضمّ 664 لوحة منسوخة بالألوان ومؤطّرة لأعمال روّاد من آسيا وأوروبا وأميركا.



مديرة متحف سرسق كارينا الحلو



خلاف

بعد استعادة القصر وافتتاحه متحفاً نشب خلاف بشأن إدارته. فقد قررت "جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت"، ودعمها في ذلك عدد من المثقفين والنقاد، مقاطعة المتحف (كانون الأول 1967). وذكّرت الجمعية في بيان وقّعه رئيسها جان خليفة وأمين سرّها وجيه نحلة، المسؤولين عن المتحف بأنه "بفضل مساعينا لدى المراجع المختصّة بدرجة أولى، أُنشئ المتحف، خلافاً لما كان يطالب به البعض آنذاك ببيع القصر مدّعين أن هذا القصر غير صالح لأن يكون متحفاً". وسألت الجمعية "عن الأسباب الخفيّة التي منعت تنظيم هذا المتحف كمتحف دائم"، رافضة "استعماله كأي صالة عرض خلافاً للمنطق ولشروط الوصيّة". ودعت الجمعية إلى تأليف "لجنة تحكيم يُناط بها توزيع الجوائز من هيئة مستقلة عن إدارة المتحف، لا أن يتم تأليفها من أعضاء لجنة إدارة المتحف كما كان يحدث في السابق. والإعلان عن أسماء أعضاء اللجنة عند الدعوة للاشتراك في المعرض... وأن يقدم المتحف دراسة وافية عن الحركة الفنية في لبنان من طريق عرض مجموعات للفنانين بمختلف مراحل الإنتاج... وأن يلتزم المتحف بشراء بعض إنتاج الفنانين الفائزين لتكون نواة المجموعة الدائمة في المتحف".

وكتب الناقد نزيه خاطر: "تظهر فجأة حقيقة متحف (!) سرسق. هو صالة عرض موسمية، وليس متحفاً. هو متحف هاو، دلّوع، غنّوج. هو من المجتمع، ابن الصالون، ابن عائلة في ثروته، من ثقافته في اسم أبيه. هو ابن السنوبيسم خطط له ليعيش على طريقة السنوب. هو لا شيء ثقافياً لأنه ابن لا شيء. ولأن حتى الفنانين أنفسهم في كبارهم وفي أغلبيّتهم الساحقة تخلوا عنه... تجاهلوه بعدما اتهموه في حقيقة وجوده وفي إيجابية أعماله: رفضوه كمتحف ولا مجموعة دائمة فيه تبرّر تسميته، شكوا في فاعلية دوره لعدم إحاطة سياسته بسياج من الإيجابية المجرّدة. نعم، نحن نعرف ما لجماعة متحف سرسق من حصانة اجتماعية تمنع محاسبتهم عن فشلهم في إعطاء متحف سرسق صفة الرصانة... الفنانون من جهة يطالبون المتحف بأن يتصرف ككل متاحف العالم، والمتحف من جهة ثانية يتجاهل مطالب الفنانين مكتفياً بالعمل كما لو أنه صالة عرض. وتطور الخلاف وتشعّب وتعقّد من جراء موقف جماعة المتحف. والموظف عندنا يتناسى دائماً أنه في مكانه للخدمة لا للتحكم. وتتحكم جماعة متحف سرسق، وترفض المناقشة مع من لهم كان إنشاء المتحف، مَن بدونهم لا متحف ولا فن في هذا البلد. وتأتي النتيجة كما تشاهدونها حالياً في متحف سرسق: الفن اللبناني في إجازة. معرض من المبتدئين والفاشلين وقلة صغيرة من النخبة، على رغم أنه يمثل الحركة في ديناميكيتها الحياتية".



تروي المعارض في متحف سرسق تأثير الحروب والأزمات على الفن (فضل عيتاني)



نقد واعتراف

واستمرت الهوّة وتوسّعت بين متحف سرسق وتيار واسع من الفنانين والنقاد والمثقفين. وتجاوز النقد الموجّه إلى المتحف العناوينَ التقنية والإدارية، إلى ما هو فنّي وثقافي وسياسي. فقد اعتبر كثير من الكتّاب أن المتحف ينتمي إلى الطبقة الارستقراطية والبرجوازية ويشجّع تقليد المدارس والتيارات الغربية، بدلاً من المحلي الذي يعبّر عن واقع المجتمع والإنسان في لبنان.

وهو ما يشير إليه المتحف، الآن، للمرة الأولى في تاريخه، في البطاقة التعريفية لـ"معرض الخريف": "في بيروت ما بعد الانتداب، ربطت الفرانكوفيليا (أي حب الثقافة الفرانكوفونية) المؤسسات التي تأسست حديثاً في ما بينها. كان الفرانكوفيل المحليّون، أمثال واثق أديب وبيار الخوري، أعضاء في لجنة التحكيم في معرض الخريف ويدرِّسون الهندسة المعمارية في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (ألبا). إلا أن توجّه المتحف المؤيّد للغرب، والمتجذّر في الخطاب القومي المسيحي السائد عن الاستثناء اللبناني الذي روّج له ميشال شيحا سرعان ما أثار انتقادات".

تتكرر هذه القراءة لتجربة متحف سرسق في بطاقة أخرى معلّقة في المتحف الآن تحت عنوان "الصالون كنموذج للمعارض"، وفيها: "يشير سرسق في وصيّته إلى رغبته في أن يهدف المتحف المزمع تأسيسه إلى عرض الأعمال والتحف الفنية اللبنانية والمحافظة عليها، والتي تشمل لوحات وأثاثاً وغير ذلك من الأغراض الفاخرة التي كانت تضمّها مجموعته الخاصّة. بالإضافة إلى ذلك، رغب سرسق في أن يحرص المتحف على عرض أحدث وأبرز النزعات الفنية في لبنان. كان النموذج الأمثل لإقامة مشروع كهذا في سنوات بناء الدولة في لبنان ما بعد الاستقلال، هو الصالون الباريسي الذي كانت تختار أعماله لجنة تحكيم متخصصة، ويسمى معرض الخريف. تمثّل هدف معرض الخريف في تنمية وصقل الذائقة الفنية للجمهور والفنانين المحليين على حد سواء، وذلك مع بروز خطاب التثقيف النهضوي باعتباره الأيديولوجيا الثقافية للدولة القومية البرجوازية".

إضافة إلى "معرض الخريف"، نظّم المتحف عدداً من البرامج والمعارض قدّم فيها أنواعاً متعدّدة من الفنون من أنحاء العالم، من السجّاد الشرقي والفنّ السوري المعاصر، إلى الفنّ البلجيكي المعاصر والرسوم والمائيّات البريطانيّة في القرن العشرين.

وعلى رغم أن الحرب (1975 - 1990) لم تقفل أبواب المتحف رسميّاً، إلا أن أنشطته تقطّعت. ما وسّع الهوة بينه وبين الحركة الفنية والثقافية، والمدينة واهتمامات اللبنانيات واللبنانيين. وفي 2008، برز اسم المتحف، لكن هذه المرة مقفلاً للأشغال. واستمرت ورشة الترميم والتوسعة حتّى 2014، وقد أُضيفت إلى المبنى أربع طبقات تحت الأرض، فباتت مساحته 8500 متر مربّع. ووفّرت التغييرات الهندسيّة المكوّنات الضروريّة للمتحف كي يكون مؤسّسة ثقافيّة فنيّة حديثة، فإضافة إلى صالات العرض هناك أوديتوريوم ومكتبة للأبحاث متخصّصة بالفنون، ومخزنان يضمّان مجموعة من التحف والأرشيف، ومحترف للترميم ومتجر ومطعم.




لعل قصة المتحف بدأت من مكتب نقولا سرسق



النهضة الفنية والعلاقة بالمدينة


اليوم، بعد انتهاء عملية ترميم المتحف الذي تضرر من انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، تحاول الإدارة صوغ علاقة مع المدينة ولبنان والمجتمع (الافتتاح في 26 أيار 2023). وإذ تشدد المديرة كارينا الحلو على هوية المتحف ووظيفته الأساسية كمتحف لا كصالة عرض، تؤكد أن المتحف الذي يطوي صفحة مؤلمة "يجب أن يعكس المدينة، وأن يسهم في بلورة صورة لبنان ورؤيتنا له". وتقول: "المتحف ليس عالماً فنيّاً وتعليق لوحات فحسب، إنما هو منصة حوار بين الفنانين. وسنعمل بكل طاقتنا كي يحس الناس أننا لا نعيش في عالم مختلف، موازٍ".

من هذا المنطلق، تروي المعارض الخمسة التي يفتتح فيها المتحف نشاطاته، وفق الحلو، تاريخ النهضة الفنية في لبنان وتأثّرها بالأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية. "فالفن والفنانون ليسوا من خارج المجتمع، ولا يعيشون في برج عاجي". وإذا كان المتحف جذب تمويلاً لترميمه، فإن عمل فريقه في الظروف الاقتصادية والمالية الصعبة نموذج عن إرادة المواجهة والنهوض. و"نريد أن نمنح هذا الأمل للبنانيين واللبنانيات".

وعلى رغم الصعوبات وتقلّص مساهمة بلدية بيروت من 80 في المئة إلى 5 في المئة من موازنة المتحف، تجزم الحلو بأن المتحف سيستمر ويواصل استقباله الزوار الذين ينتظرهم بشوق (الدخول مجاني). وقد نشط أصدقاء المتحف، من أفراد ومؤسسات، في الأيام الماضية، لتوفير الدعم اللازم كي يقوم المتحف بمهمته الأساسية في تسليط الضوء على الفن والفنانين في لبنان.

هكذا، لا يشاهد زوار المتحف أعمال فناني ما قبل الحرب، من جورج داود قرم وشفيق عبود وبول غيراغوسيان وعارف الريس وجان خليفة وسلوى روضة شقير وإيڨيت أشقر وإتيل عدنان وميشال بصبوص ورفيق شرف وإيلي كنعان وعادل الصغير وميشال المير وحسين ماضي وغيرهم، فحسب، بل يرى تأثير الحرب والأزمات على الحركة الفنية والعاملين فيها، وعلى لبنان عموماً. فهناك مثلاً لوحة لعارف الريس "تصوّر" التحركات المطلبية لطلاب الجامعة اللبنانية. وبجانبها لوحات لجان خليفة من مجموعته التي يروي فيها احتجازه في محترفه الذي دخله مسلّحون وأقاموا فيه خلال إحدى المعارك إبان الحرب. وهناك أيضاً ذكرى من محترف الرسام سعيد عقل الذي احرقته جولات العنف أيضاً. ولوحة للور غريب عن انتفاضة 17 تشرين الأول 2019. وإضافة إلى الخدوش في بعض اللوحات، تضم المعارض أعمالاً فنية وفوتوغرافية توثّق للحرب، وقصاصات من أرشيف يحكي انعكاسات الأزمات على الفن والفنانين ومنتجاتهم، ويعرض للسجالات في شأن المتحف وتوجّهاته الثقافية والفنية.

وفيما يقدّم زاد ملتقى عرضاً بصرياً موسيقياً يحكي كيف يحوّل الفنُ انفجارَ العنف إلى إبداع، يلامس المتحف واقع لبنان من خلال عرضه ثلاثة أفلام للفنانين مروة أرسانيوس وسابين سابا وأحمد غصين، يجمعها عنوان الأرض.

حي في الأشرفية واتصالات دولية

شُيِّد قصر نقولا إبراهيم سرسق عام 1912 على الطراز القوطي الإيطالي مدموجاً بعناصر كانت سائدة في العمارة والمدن العثمانية. وهو ضمن مجموعة من القصور التي بنتها عائلة سرسق، منذ وصلت إلى بيروت، في الأشرفية المشرفة على البحر والمرفأ. وكانت الأشرفية، وفق عصام محمد شبارو، "عبارة عن مزرعة في ضواحي بيروت تشتمل على أشجار التوت والفاكهة وأصول الزيتون والليمون".

ويروي سمير قصير في "تاريخ بيروت": "تصدّرت عائلة سرسق المسيحية الارثوذكسية الطبقة البرجوازية الجديدة. ويرقى أصل العائلة، واسمها من التركية سَرساق، إلى مرسين حيث كانت تملك أراضي شاسعة. في القرن السابع عشر، وربما قبل هذا التاريخ، أقام السراسقة في قرية البربارة، غير البعيدة من جبيل، حيث جمعوا رأسمالاً لقاء الخدمات التي أدّوها بصفتهم ملتزمي إقطاع زراعي. وفي نهاية القرن الثامن عشر أو في مطلع القرن التاسع عشر، انتقل فرع من العائلة إلى بيروت وهناك أقاموا اتصالات بالقناصلة الأجانب. وفي عام 1832، كان أحد السراسقة يعمل ترجماناً عند المندوب الأميركي ونال آخرون من العائلة حظوة لدى الجاليات الروسية واليونانية. وما يدهش في هذه المرحلة أننا نجد في هذه العائلة المسيحية غير اللاتينية أفراداً يتمتّعون بالحماية الفرنسية. كان السراسقة يفرضون أنفسهم أيضاً كوكلاء تجاريين في تصدير الحبوب، ثم تنوّعت أعمالهم في مجال التوظيف المالي والعديد من الاستثمارات منها في شركة السويس وطريق بيروت - دمشق. وفي مصر، عزّزت العائلة اتصالاتها بالخديوي سعيد ثم بأخيه إسماعيل. وعرفاناً لدعمه في مواجهة المعتمدين البريطانيين والفرنسيين منحهم الخديوي إسماعيل بعض أسهمه في شركة القناة. ثم انتقلت العائلة إلى بيروت حيث سكنت تلة الأشرفية وأعطت اسمها للناحية الأكثر رقيّاً في المدينة وهي حي السراسقة، المزدانة بمساكن فخمة على الطراز الإيطالي الذي استمد شهرته على مرّ الأسفار والاتصالات بالمجتمع الأوروبي الراقي. وهذا البروفيل الارستقراطي، الذي جرى إبرازه خلال حفلة استقبال الغراندوق ديمتري، ترسّخت صورته عندما اقترنت ابنة كونت في نابولي بألفرد سرسق. وهذه المصاهرة العائلية لم تكن الأخيرة مع أفراد من طبقة النبلاء الأوروبية. لكن السراسقة لم يتخلّوا عن الاهتمام بالشأن العام في بيروت ولا قطعوا صلاتهم بأبناء الطبقة الحاكمة العثمانية. كما قاموا بنشاطات خيرية كانت ثمرتها الأفضل إنشاء مدرسة زهرة الإحسان للبنات، وساهموا بشكل مباشر أو غير مباشر في إدارة المدينة. وانتُخب أحد أفراد العائلة، ميشال سرسق، نائباً عن بيروت في البرلمان العثماني عام 1914".

يُضيف قصير: "كان حي سرسق المحور الذي تدور الحياة حوله في المجتمع البيروتي الراقي، وكان يُقال له وحده الحي Le Quartier بالفرنسية، حيث بنت العائلات الارثوذكسية الكبيرة منذ أواسط القرن التاسع عشر دارات فسيحة مستوحاة غالباً من القصور الإيطالية، ثم تشكّلت مجموعة أشراف أخرى في الجهة المقابلة للمدينة، على تلة القنطاري مجتذبة عائلات مسيحية مارونية أو روم كاثوليك أثرت بفضل انخراط بيروت في حلقة التجارة الدولية. كانت النزعة إلى التغربن، وقد عزّزها الثراء، تتجسّد هنا وهناك باتباع نمط حياة احتفالي لاهٍ منسوخ عن ممارسات الارستقراطية الأوروبية حيث يُستقبل مئات المدعوين بحفاوة في هذه الحفلات اللامعة والسهرات وسط الحدائق المنبسطة على بضعة آلاف من الأمتار المربعة. ثم جاءت الحرب العالمية الأولى لتقطع هذه الاحتفالات، على رغم أن جمال باشا شرّف بحضوره السهرات التي كانت تُقام في حي سرسق إبان الأشهر الأولى من الحرب. لكنّها، أي هذا النوع من الاحتفالات، لم تلبث أن عادت إلى سابق عهدها".


MISS 3