عيسى مخلوف

أيُّ معنى للأمومة اليوم؟

21 آذار 2020

10 : 00


يولد المرء من رحم امرأة مجهولة تصبح، في الغالب، أقرب الناس إلى قلبه. معها يتكوّن، في عينَي الطفل، الملمح الأوّل لصورة العالم، والرؤية الأولى إلى الكائنات والأشياء. في كتاب "وعد الفجر" لرومان غاري، وردت العبارة الآتية: "مع حبّ الأمّ، تعدكَ الحياة، في مطلعها، بوَعد لا تفي به أبداً". كأنّه يقول إنّها تعطينا، في بداية الطريق، ما لا يوازيه، بعد ذلك، عطاء. كيف لا وهذا الوعد ينطوي على عُصارة الانتباه والحبّ، الحبّ السابق لكلّ شيء حتّى للحياة نفسها؟

النظرة إلى الأمومة ليست واحدة في سائر المجتمعات، فهي تطوّرت، هنا وهناك، بنسب متفاوتة، داخل العائلة والمجتمع، وأيضاً في وعي كلّ امرأة على حدة. إلاّ أنّ وظيفة الأمّ تختلف بين مجتمع يعطي المرأة حقوقها الأساسيّة ويسعى إلى مساواتها مع الرجل ويجيز الإجهاض، ومجتمع آخر لا يعترف بحقوقها على الإطلاق، بل يعتبرها دونيّة وتابعاً، وينحصر دورها في الرضى والخضوع وقهر الذات.

ظروف الأمومة ليست واحدة في كلّ مكان. لا تزال معدّلات وفيّات الأمومة مرتفعة بشكل كبير في بعض الدول النامية، وهناك ما يزيد عن ثلاثمئة ألف امرأة يلاقين حتفهنّ سنوياً في جميع أنحاء العالم من جرّاء الحمل والولادة. والأمومة، بما هي أحد أسرار الطبيعة، ليست حالة جسديّة فقط بل حالة نفسيّة أيضاً، تبدأ في مرحلة ما قبل الحمل، ثمّ أثناء الحمل وبعد الإنجاب. سعادة الأمّ بوليدها لا يوازيها إلاّ خوفها الدائم عليه. في قلب سعادة الأمّ توجد رجفة الخوف، مثل النُّواة في قلب الثمرة. لكن، للأمومة معنى آخر مختلفاً في المجتمعات التقليدية التي يأكلها الفقر والأميّة والبطالة. وهذا ما ينعكس على الأمّ، وكذلك على العلاقة بين الأمّ ووليدها. إلى أيّ مدى يمكن أن تساهم الأمّ في تربية أبنائها إذا كانت محرومة، هي نفسها، من التعليم ومن أيّ دور سياسي واقتصادي واجتماعي، بل من أيّ اعتبار إنساني. في شهر شباط الماضي، تجاوز عدد السكّان في مصر المئة مليون شخص، بينما كان العدد لا يتجاوز التسعين مليوناً في العام 2013. والآن، يضاف مليون نسمة كلّ ستّة أشهر، وذلك في غياب وعي السلطة السياسية أبعاد هذا الانفجار السكّاني وانعكاساته.

الأمومة لا تعني الأمّ وحدها، بل الأمّ والطفل معاً. الطفل الذي يظلّ أحد أغصان والدته حتى بعد أن ينقطع حبل السرَّة. لذلك فإنّ مصيره ومصيرها واحد في المرحلة الأولى من حياته. يفرح لفرحها ويلفّه البؤس إذا كانت معذّبة وبائسة. هي أيضاً تحضن الآتي منها وترى نفسها في مرآته. ألا يقول الكاتب الفرنسي كريستيان بوبان إنّ "الأمّهات يولدنَ مع أبنائهنّ في الوقت نفسه؟".

الأمّهات، في المُطلَق، جميلات، وجمالهنّ يأتي من الحبّ‫. من لُغز الحبّ الذي في قلوبهنّ‫. في المُطلَق، أي حين لا تتحوّل الأمومة إلى عبء وعبوديّة‫. أي حين لا ينظر الأطفال والأزواج إلى الأمّهات بصفتهنّ وليمة ويأكلونهنّ‫. عندئذ، ما الذي سيبقى من المرأة ولها؟ أيّ عطاء يبقى لكي تُعطي؟ من ينتبه إلى روحها، إلى أحلامها وتطلّعاتها، وإلى جسد الأنثى فيها؟ وأيّ وقت سيبقى لها لتتفتّح، هي كذلك، وتعمل وتُبدع وترى النور؟ لو كان واحدنا يعيش حياتَين اثنتَين، لكنّا ضحّينا بواحدة منهما، أو لكنّا اعتبرنا الأولى بمثابة "تمرين" للحياة الثانية الحقيقيّة‫، لكنّها واحدة وحيدة فحسب. وهذا ما نغفل عنه حين ننظر إلى الأمّهات من بعيد‫، ونصفّق لهنّ من وراء زجاج عازل كلّما بذلنَ من أجلنا المزيد من التضحيات‫. ولا ندرك كيف تتحوّل الأمومة أحيانًا - الأمومة التي هي سرّ وفرح - إلى جُرح وكآبة. أمّا صورة الأمّ في الأدب والفنّ فلا تتلاءم دائماً مع صورتها في الواقع. الأدب والفنّ يأخذان الأمومة إلى أمكنة أخرى. إلى حقول فسيحة فيها متَّسع لنوع من الحبّ غير المهدَّد كلّ لحظة بالفَقد. تطالعنا الأمّ في منحوتة الخصوبة التي تتماهى فيها الأمّ مع الأرض، الموجودة في متحف "اللوفر" وترقى إلى الفترة الممتدّة بين 6000 و5100 سنة قبل الميلاد، وكان قد عُثر عليها بين بلاد ما بين النهرين وشمال سوريا. من تلك الفترة حتّى يومنا هذا، مروراً بعصر النهضة الإيطاليّة، تطالعنا لوحات ومنحوتات كثيرة تتمحور حول الأمومة وتتحرّك فوق رُقعة واسعة من الأساليب التي تلتقي فيها، بصورة دائمة التجدُّد، ولادة الفنّ وولادة الإنسان. وكم تكتسي الأمومة، ومعها الحياة نفسها، معنى خاصّاً في أزمنة الويلات والحروب والأوبئة الخطيرة كالتي يمرّ بها عالمنا اليوم.


MISS 3