كارين عبد النور

بين زيت الزيتون والإدارة... جوائز في الحقل وخلف المكاتب

عيّروه قائلين... "مصيرك السجن أو بيع الخضار في الشارع"

22 أيار 2023

02 : 01

بستان الزيتون

كإبرة في كومة قش هي الخبريات الحلوة هذه الأيام. التقارير الواردة من خلف الحدود وداخلها، عنّا وحولنا، مستمرّة بِقصفنا بتصنيفات يندى لها الجبين. سياسياً، اقتصادياً واجتماعياً يندر أن يأتي مَن ينافسنا على تبوّؤ أسفل الترتيبات. لكن عادات "التميّز الفردي" اللبناني تموت ببطء، كما يقال. إليكم حكاية من عبرا وأخرى من تكساس. هما قصّتا نجاح نرويهما على لسان بطليهما قبل أن نُرشَق بصلية تصنيفات أخرى. 



هناك من لا يألو جهداً لإبقائنا في القعر. وهناك أيضاً طاقات لبنانية تبقي أصحاب النَفَس الطويل بيننا على قيد الأمل. لكن دعنا من الكليشيهات. فَمِن بلدة عبرا الجنوبية، ها هي علامة «بستان الزيتون» التجارية تحصد ثلاث جوائز ذهبية عالمية لتُصنَّف مؤخّراً من ضمن أفضل مئة منتج لزيت الزيتون البكر حول العالم. ومِن قرية اللويزة الجزينية إلى تكساس الأميركية، هناك قصة نجاح الشاب اللبناني، مو حيدر، الذي حصل على جائزة أفضل مدير مالي للعام 2023 من قِبَل مجلة D Magazine. فماذا يخبراننا؟



جائزة من أميركا



الزيتون يُحصَد... وزيته يَحصُد

نبدأ بالعلامة التجارية «بستان الزيتون» وتحديداً مع صاحبها، المهندس وليد مشنتف، لنسمع كيف تمكّن من حصد ثلاث جوائز ذهبية عالمية للعام 2023. الأولى ضمن مسابقة NYIOOC العالمية لجودة زيت الزيتون التي تقام في نيويورك، والتي تُعدّ من أكثر المسابقات العالمية شهرة. والثانية حصل عليها في قرطبة الإسبانية ضمن مسابقة EVOOLEUM لأفضل مئة علامة زيت زيتون بكر ممتاز حول العالم، بنتيجة 91/100 أي من بين العلامات العشر الأوائل عالمياً. وهو ما اعتبره مشنتف في حديث لـ»نداء الوطن» فرصة ذهبية ستسمح بإدراج علامة «بستان الزيتون» ضمن دليل EVOOLEUM 2024 المرجعي. أما الجائزة الثالثة، فقد حصدها ضمن مسابقة OLIVE JAPAN الدولية لزيت الزيتون البكر والتي تقام في اليابان كإحدى أبرز المسابقات التنافسية العالمية.

ماذا عن أهمية هذه الجوائز؟ «أتمنى أن تمثّل عامل تجديد للثقة بإمكانيات لبنان وبقدرات أبنائه رغم تراكُم الظروف المعاكسة التي تحيط بالبلد. منذ العام 2008 ونحن نقوم بتطوير الإنتاج والنوعية والجودة لتوازي المعايير الدولية. وها نحن نثبت أن قطاع الزيتون، الذي يُعتبر قطاعاً تاريخياً في لبنان وشرق المتوسط، واعد ويدفعنا للتمسّك بأرضنا. فشجرة الزيتون هي شجرة القداسة والصلابة والصمود وكرم العطاء»، كما يجيب مشنتف. النوعية تختلف من منطقة إلى أخرى كما من مصنع إلى آخر. فتوقيت وطريقة القطاف، كما المعاملة الحقلية والاهتمام بتغذية الأرض والشجرة، إضافة إلى الري التكميلي في أيام الصيف وطريقة العصر وسبل التخزين، جميعها عوامل تصنع الفرق... مذاقاً وجودة.



هكذا بدأت الحكاية

صحيح أن لبنان هو بلد الأرز، كما نتغنّى، لكن الزيتون ثروة وطنية ذات رمزية خاصة أيضاً. فكيف بدأت حكاية مشنتف مع تلك الشجرة «المباركة» التي تعمّر ما بين 150 و200 سنة، وربما أكثر؟ «وُلِدْتُ في قرية عبرا الصغيرة الواقعة فوق مرتفعات صيدا. وبالكاد تمكّنت من إكمال دراستي الهندسية بسبب الحرب الأهلية التي دمّرت المنطقة وأحالتها رماداً يصعب النهوض من تحته. فقرّرت عندها المغادرة إلى الخليج حيث أمضيت 15 عاماً». مشنتف عاد إلى لبنان وانتُخب رئيساً لبلدية مسقط رأسه في العام 2010. وللحدّ من الدمار الناجم عن التحضّر السريع الذي لحق بالقرية، وحماية لآخر تلّ فيها من تمدُّد الإنشاءات، قام في العام 2011 بزراعة 6000 شجرة زيتون على مساحة 25 هكتاراً من التلّ، ما أعاد روح الحياة ورونق الطبيعة إلى وسط القرية، تزامناً مع عودة بعض الحيوانات التي اختفت سابقاً للظهور من جديد.



وراح الحلم يكبر. «لا يصبح المرء مزارعاً بين ليلة وأخرى. كنت أزور إيطاليا بشكل متواصل لأتدرّب على زراعة الزيتون، وتمّ اختيار 12 نوعاً من شجر الزيتون الإيطالي لزراعته في عبرا. كان الهدف الجودة وليس الكمية، لذا كنا نبدأ الحصاد في منتصف شهر أيلول (أي قبل شهر من باقي المزارعين) حيث تكون النكهات ما زالت مركّزة لا سيما في الزيتون الأخضر». ليس هذا وحسب، فكل صنف يتمّ اختياره وضغطه على حدة، ما يتيح تقديم مجموعة من المنتجات بنكهات وكثافات متنوعة تختلف سنوياً بحسب الظروف المناخية. فَمِن بين الزيوت المميزة، هناك صنف ITRANA الذي تفوح منه رائحة العشب الطازج كما يطوّر طعماً فاكهياً متناغماً في الفم مع مرورة متوازنة للغاية.



مناخ ملائم امتزج مع كثير من الشغف. والنتيجة إنتاج زيوت عطرية طازجة حصدت جوائز عالمية. مشنتف كان أول لبناني يفوز بالميدالية الذهبية في مسابقة NYIOOC في نيويورك للعام 2018. وكرّت السبحة.



مو حيدر...



وليد مشنتف



إلى تكساس... در

هذا بخصوص زيت الزيتون. فماذا عن مو حيدر، الحاصل على لقب أفضل مدير مالي للعام 2023 من قِبَل مجلة D Magazine للشركات متوسّطة الحجم، هناك في الجنوب الأميركي؟ حيدر، المدير المالي والعضو التنفيذي المؤسس لشركة Dialexa - إحدى شركات IBM (International Business Machines Corporation) ويعمل فيها أكثر من 350 ألف موظف يخدمون عملاء في أكثر من 170 دولة، يقول في اتصال مع «نداء الوطن»: «انتقلت من لبنان إلى دالاس في العام 2011 وكنت الموظف الوحيد في شركة التكنولوجيا Dialexa . أشرفت في البداية على كافة شؤون الشركة، من المالية إلى إدارة العمليات التجارية وحتى عمليات التنظيف. عملت مع شقيقي مارك، المؤسس المشارك للشركة، على توسيع نطاق نشاطنا دون رأسمال خارجي أو أي استثمار يُذكَر. وبعد 10 سنوات تَضاعَف حجم الأعمال ليتمّ بيع الشركة في العام 2022 إلى شركة IBM Consulting».



حين نحت الشركة منحى النمو التصاعدي، أنشأ حيدر فريقاً مالياً ومنصة لإتمام المهام، وانتقل من كونه شخصاً واحداً يعمل على ملف Excel إلى مجموعة من ثمانية أشخاص يعملون على نظام تخطيط موارد المؤسسات (ERP). كل ذلك حصل بغضون ستة أشهر فقط، علماً أن انتقالاً مماثلاً يستغرق عادة ما لا يقل عن عامين في شركات أخرى. وبعد فترة وجيزة، جرى بيع الشركة. «كان علينا أن ندير شركتنا كما عملية الاندماج تحت جناح شركة أخرى، وهذا يتطلّب فريق عمل وجهداً كبيرين. لكن نقص مورّدي التكنولوجيا في النصف الأول من العام 2022 وتباطؤ السوق في النصف الثاني من العام جعلا تحدّي الحفاظ على نمو الشركة صعباً للغاية. إلّا أننا أكملنا ولم نستسلم وأصبحنا اليوم نضمّ أكثر من 300 موظف»، كما يضيف حيدر.



المسار الصعب... الصحيح


كفاح وإصرار حيدر لم يأتيا مِن عدم. ذلك كان وليد طفولة قاسية طبعت في ذهنه جملة كان يردّدها على مسمعه المحيطون به: «مصيرك السجن أو بيع الخضار في الشارع». نشأ حيدر في الثمانينات في قرية اللويزة قرب عين بوسوار في شارع مزّقته الحرب الأهلية والصراعات الداخلية والدولية إرباً. دمار وفوضى وقتل... «كنت أعيش مع أمي وأبي وأخي وأختي في غرفة واحدة وأحياناً كنا لا نملك ثمن وجبة طعام. ما زلت أذكر مجزرة قانا ومشاهد الأطفال والنساء والمسنّين وهم يلاقون مصير الموت المحتوم. لم أتأقلم مع الظلم المحيط بي وكان الغضب يعتمرني رفضاً لمرارة الواقع. حتى المدارس التي انتسبت إليها كانت تشوبها العشوائية. رسبت مراراً، خاصة وأنني تعرّضت لإصابة في الرأس حين كنت في الثالثة من العمر أثّرت على عملية النطق والتركيز لدي».



الرسوب ليس بالتجربة الممتعة طبعاً. لكن حيدر أدرك أن العلم وسيلته الوحيدة للخروج من خندق الفقر. يئس واستسلم مراراً لكن صوتاً في داخله كان يقول له، كما أخبرنا، بأن دوراً كبيراً ينتظره في الحياة. ثلاث كلمات من شقيقه كانت كفيلة بأن ينتفض ويزيل غبار اليأس عنه: «أنا أؤمن بقدراتك». جدّ ودرس وعمل على تطوير نفسه لدرجة أن ساعات نومه لم تتخطَّ الأربع يوماً. وهكذا اجتاز المرحلة الثانوية بدرجة عالية في الامتحانات الرسمية. «بعد تخرّجي من الجامعة رغبت بالبقاء في لبنان لكن شعرت أن لا أمل في صناعة مستقبل هناك. ساعدني شقيقي الذي انتقل قبلي إلى الولايات المتحدة للّحاق به، وهكذا بدأ المشوار». الحظ يلعب دوراً محورياً لا شك، أكان إيجاباً أم سلبياً. وعلى الرغم من أننا نولد جميعاً محمّلين بـ»شوائب» كالفقر ومحدودية القدرات، كما يتابع حيدر، لكن لا يجب السماح لذلك بغلق المنافذ.



بستان الزيتون



على تلّ في عبرا



حيدر أسرّ لنا عن تساؤلاته حيال سبب مجيئه إلى هذه الدنيا وكيف انتفض بعد كل «نوبة» استسلام، أراد توجيه رسالة إلى الشباب اللبناني: «في الحياة ثمة خياران دوماً... إما المسار السهل ولكن الخاطئ، وإما المسار الصعب لكن الصحيح. لا تستسلموا أمام الذين ينعتونكم بالفشل، ولا تكونوا تابعين لِمَن يستمتع بذبحكم كل يوم. التحكّم بكافة الظروف المحيطة غير ممكن لكن قدرتكم على التحكّم بكيفية المواجهة ممكنة. تسلّحوا بالعلم وابتعدوا عن السياسة وجماعاتها التي اغتالت شعب لبنان».



خَلْقُ شيء من اللاشيء ليس مستحيلاً. هكذا علّمتنا التجارب. حيدر حلم بالعودة إلى لبنان لمحاولة منح كل طفل موهوب فرصة لم ينلها بعد. ومشنتف حلم هو الآخر بأن يضيء اسم لبنان بما أتيح له من سُبل. وغيرهم كثرٌ... كثرٌ من كتّاب قصص النجاح. لكن عن أي لبنان نتكلّم، وسنتكلّم، يا ترى؟

MISS 3