حسان الزين

الهوّة كبيرة بين الفكر والشارع ومواجهة أزمات الواقع بأدوات جديدة باتت أمراً ضرورياً

نايلة أبي نادر: نجحنا كلبنانيين في خيانة أنفسنا وأخمدنا صوت العقل

27 أيار 2023

02 : 01

الإستقالة من العمل الفكري ليست واردة مهما كان حجم التعتيم أو التحجيم (رمزي الحاج)

للحوار مع الباحثة نايلة أبي نادر نكهة خاصّة. فهي تبحث وتشتغل بالفلسفة من دون الإستقالة من الواقع. وإذ تقرن الفكر بالعمل لا تسطّح الأول ولا تعقّد الثاني. إضافة إلى هذا، هي مهمومة بأسئلة الإنسان والمجتمعات والعالم راهناً ومستقبلاً. ولنايلة أبي نادر مجموعة من الأبحاث الأكاديمية الجادة والبارزة، منها "التراث والمنهج بين أركون والجابري" (الشبكة العربية للأبحاث والنشر)، "الفكر العربي الحديث والمعاصر: نماذج نقدية" (دار التنوير)، و"محمد أركون المفكر والباحث والإنسان" (مشترك، مركز دراسات الوحدة العربية)، وأبحاث ودراسات عدة. وهي الأمينة العامة لـ "الحركة الثقافية - إنطلياس"، وأستاذة في الجامعة اللبنانية، وشاركت في مؤسسات ومؤتمرات عربية. 

تشتغلين في الفلسفة والفكر العربي المعاصر، هل يمكن أن يُقرأ لبنان اليوم فلسفياً، وكيف؟

الاشتغال بالفلسفة في لبنان أمرٌ قد يكون غريباً بعض الشيء بالنسبة إلى كثيرين، بخاصة في هذا الزمن بعدما تقلّصت مساحة الفكر النقدي، وتراجع الاهتمام بالوعي وإنتاج المشاريع الفكرية. نعيش في أيامٍ تشبه مرحلة ما قبل التاريخ، عندما كان الإنسان يسعى إلى تأمين الضروريات للبقاء على قيد الحياة، كشغل يومي يجب إنجازه، لا أكثر. في ذاك الزمن، لم يكن لفعل التفلسف مكانٌ مهمٌّ، ولا للتنظير والتجريد أهمية تُذكر. لقد نجحنا نحن كلبنانيين في خيانة أنفسنا، ورحنا إلى أبعد ما يمكن في إخماد صوتِ العقل، وقمع المبادرات الخارجة على المألوف، وإسكاتِ أو تهجير الأصوات المنادية بالتغيير الحقيقي.


ما نشهده اليوم، إن على الصعيد التربوي، أو الاجتماعي، أو السياسي، يعكس صورة مخيّبة لما حلم به روّاد النهضة، وسعى إليه المفكّرون منذ ستينات القرن الماضي. لن أقارب الواقع اللبناني من منظور التشاؤم ولا التفاؤل، فالوضع يتخطّى بتعقيداته هذين المنظورين، ليفرض علينا وقفة تأمّلية، تتبعها ورشة تفكيكية نقدية، تعرّي طبقات الخداع، وشطحات الأدلجة، لكي تكشف حقيقة البنية الفكرية التي تتحكّم بنا. الوضع مأزوم، والحل ليس في السياسة والاقتصاد فحسب، إنه أعمق لأنه يطاول الذهنية المتحكّمة بالواقع، وبكيفية التعامل معها.


هذا مدخل مأسوي، يدفع إلى التأكيد على السؤال إن كان في الإمكان أن يُقرأ لبنان اليوم فلسفياً؟ فلبنان بلد مأزوم وبحاجة إلى آفاق وروح جديدة، هل يمكن أن تفعل الفلسفة ذلك، ربطاً بالمنطقة والعالم والمتغيرات فيهما؟


وجع المعاناة يوقظ التساؤل، ويبعث الرغبة في البحث عن الأسباب التي أدّت بنا إلى ما وصلنا إليه. بعد كل الانهيارات التي نشهدها على أكثر من صعيد بات من الضروري أن نسلّط الضوء على الخطابات النقدية، والمشاريع التغييرية، والطروحات الإنقاذية التي يتمّ تداولها على أكثر من منبر، وفي أكثر من مناسبة. إمكان التفلسف واردٌ طالما أن هناك من يسأل، من يبحث، من يقلق، من يعي أن التراجع والخيبة والانكفاء علامات لا يمكن أن تمرّ من دون أن تستوقفنا، وتستنهض طاقاتنا على التفكّر. مواجهة أزمات الواقع بأدوات جديدة بات أمراً ضرورياً، تأجيله، أو رميه على الآخرين، سيزيد الأمور تعقيداً. بعد كل ما مررنا به من تجارب ساخنة في البلد، لم ننتبه كفاية إلى أننا لم نواكب فعليّاً ما حدث، لم نكترث كفاية بما آل إليه الواقع المتحوّل إن من حولنا، أو من الداخل.


الفلسفة دعوة مفتوحة إلى إعادة قراءة الواقع المأزوم، والحفر عميقاً في الذات، ومراجعة التاريخ، ومساءلة النظام السياسي والنظام الاجتماعي السائدين، وإطلاق سراح الفكر، وتحديث أطر المعرفة. لذا، إمكانُ التفلسف حاضر، لكن التحقّق هو الأصعب. نلحظ أن عملية تهميش المفكرين، والمحلّلين النقديين، المعتمدة عن قصد أو غير قصد، لا تشير البتة إلى أن الفلسفة مطلوبة اليوم، ولا إلى أن الاستماع إليها أمرٌ مرغوب فيه بقوة. الحراك السياسي كما نشهده في واقعنا لا يوحي بأي قيمة تُعطى للمرجعيات الفكرية، إنما المقياس المعتمد يذهب في اتجاهات إخرى. ما زلنا بعيدين عن الانتباه إلى قيمة الفكر الفلسفي، والتحليل النقدي الموضوعي الذي ينهمّ بفهم ما يحدث، وتفكيك بناه المستورة.


لذا، يمكن القول إن البلد لا يخلو من الذين يكرّسون فكرهم وخبرتهم لدرس واقع ما يجري وفهمه وإبرازه بوضوح للآخرين، لكن التحقيق الفعلي لمجمل هذه الدراسات، وإبرازها للرأي العام، للأسف، يزداد صعوبة، يوماً بعد يوم. يكفي، أن نلقي نظرة سريعة على مجمل ما تعرضه الشاشات من برامج تنشغل بالأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى التربوية، لكي نلحظ بوضوح غياب الرأي الفلسفي، والاكتفاء بالأوجه التي باتت تتنقّل من شاشة إلى أخرى، من دون إضافة أي جديد. لست هنا في معرض تقويم هذا النوع من البرامج وضيوفها، لكنّي أردت الإشارة إلى صعوبة اختراق الفيلسوف المنصّات الإعلامية الفاعلة في تكوين الرأي العام. الأمر الذي يؤثّر مباشرة على الدور الذي يمكن ان تلعبه الفلسفة بخصوص الوضع في لبنان.


بحثتِ في فكر أمين الريحاني وعبدالله العلايلي باعتبارهما نموذجين نقديين، هل تعتقدين أن لبنان اليوم يفتقد إلى أمثالهما، هل هناك بالنسبة إليك مثلهما اليوم (من هم، ولماذا؟)؟


عندما اخترتُ العمل على كلّ منهما، لم يكن القصد أبداً حصر الفكر النقدي بهما، علماً أنني كرّستُ في كتابي هذا فصلاً كاملاً لدرس فكر شربل داغر، وهو مفكر نقدي متعدّد الانشغالات البحثية، لم يحصر عمله في حقل معرفيّ واحد، واتسمت أعماله وطروحاته في مجملها بالنقد، وهو أيضاً من لبنان. اكتشفتُ من خلال درسي للفكر العربي المعاصر أن هناك مفكرين رصينين كثراً لكنهم مغمورون، واعتبرتُ أنه من واجبي كمشتغلة في الفلسفة، وكأستاذة في الجامعة اللبنانية، أن أدرُسَ فكر هؤلاء وأظهّره أمام أعين الطلاب، لكي يتعرّفوا إلى واقع ما يُنتَج فكرياً، وهو متقدّم معرفياً، بالقياس إلى ما يُنتج سياسياً، أو اقتصادياً، أو علمياً. لا أرغب أبداً في تصنيف المفكرين، ولا الباحثين، بخاصة في سياق حوار سريع، لأنني أرى أن أفضل تقويمٍ يأتي نتيجة القيام بدرس ما ينشره المفكر درساً نقدياً وفق مقتضيات المناهج الحديثة. بعد ذاك، بإمكان الدراسة وحدها أن تُظهر أهمية الطروحات التي قدّمها هذا المفكر أو غيره.


بالعودة إلى سؤالك حول كل من الريحاني والعلايلي، فقد درستُ الأول لأشير إلى المقوّمات النقدية في فكره، بخاصة في ما يتعلّق بالدين، لأظهر المنحى الفلسفي في كتاباته. كذلك، درست العلايلي، كونه لم يأخذ حقّه بعد، وهو الذي تجرّأ وطرق باب النقد ومن ثم فتحه على مصراعيه. إنهما يقدّمان نموذجين نقديين عملا على تصويب المسار النقدي نحو مزيد من الدقّة والجرأة في الكشف عن مكامن الخلل. هذه السلسلة النقدية، التي لم أتمكن لغاية الساعة إلا من نشر الجزء الأول منها، تحثّني على متابعة العمل، لإبراز مزيد من النماذج النقدية الحاضرة في الفكر العربي الحديث والمعاصر، بعدما كنت قد بدأت بدرس مشروعين نقديين تناولا بالبحث الفكر العربي الإسلامي، عنيتُ بهما مشروع كل من محمد أركون ومحمد عابد الجابري.


كأن النقد تراجع، في لبنان والمنطقة، لماذا، بسبب تقلّص الحريات وضغوط الأنظمة والمجموعات المتشددة، بسبب الأوضاع الاقتصادية، بسبب ضعف ثقافة النقد عربياً وعدم قبولها؟

هناك في البداية أمرٌ يجب توضيحه يتعلّق بمعنى النقد الذي يحمل أكثر من دلالة. ما يهمّني هنا هو النقد بمعنى المراجعة الدقيقة، والكشف عما تمّ إخفاؤه عمداً أو عن غير قصد. النقد يعني التفكيك والتعرية، زحزحة القوالب المعرفية الجامدة، فتح أفق التساؤل وإعادة النظر في الثوابت المعرفية. الكشف، كما عمل محمد أركون، عن دائرة "اللا مفكر فيه"، ودائرة "المستحيل التفكير فيه"، وعدم الاكتفاء بما يتمّ تقديمه للعلن. كذلك، يعني النقد، استخدام كل المكتسبات الحديثة التي تنتجها وتطوّرها علوم الإنسان والمجتمع واللغة، والاستفادة منها في فهم التاريخ والواقع الحاضر، على حدّ سواء. النقد بهذا المعنى لا يمكنني أن أجزم هنا، إذا تراجع أو تقدّم، كوني لم أدرس كل ما يتمّ نشره من قبل المفكرين العرب المعاصرين، لكن أسمح لنفسي أن أقول، وبعدما شاركت في أكثر من مؤتمر في الدول العربية، أن هناك جيلاً جديداً من الباحثين قد هضم فكر الحداثة، وتتلمذ على يد أساتذة مرموقين متمرّسين بالمناهج النقدية، يقدّمون أوراقاً بحثية ذات مستوى عالٍ من الفكر، تتميّز باتباع أحدث المناهج، وتصل إلى سقوف عالية من المراجعة النقدية. هناك كثير من المفكرين العرب المعاصرين الذين استطاعوا جذب كوكبة من الباحثين الشباب من حولهم، درّبوهم على النقد، فإذا بهم ينتهجونه في مساراتهم المعرفية، وإنتاجاتهم الفكرية.


لكن، كل هذا الانتاج ما زال شبه محصور في الإطار الأكاديمي النخبوي، أو داخل جدران قاعات المؤتمرات التي تُعقد في المعاهد والكليات ومراكز الأبحاث العربية. لذا، أعتقد أنه حان الوقت لكسر النمطية السائدة، والعمل على مدّ الجسور بين ما يُنشر على صعيد الفكر النقدي، وبين طلاب المعرفة، إلى أي بلد انتموا، أو إلى أي شريحة مهنية انتسبوا، أو مهما كان مستوى تحصيل شهاداتهم. فأمور الفكر تعني الجميع، طالما أنه لدينا وعيٌ يلحّ علينا بأسئلته لكي نذهب في الاتجاه الأبعد، ونحو المدى الأوسع. هنا، لا يمكنني إلا أن أثمّن ما أنتجه علي حرب في هذا الخصوص وغيره، وما يقوم به باحثون وإعلاميون مميّزون، في سبيل تسهيل تداول الأفكار واستيعابها، وتأمين الإطار المناسب لمناقشتها. إن الإبقاء على حصر إنتاج الفكر النقدي داخل الأروقة الأكاديمية سيُسهم في مزيد من التراجع والانهيار. ليس المجال مناسباً هنا للتوقّف بالتفصيل عند الدور الذي لعبته الصحافة والمجلات المتخصّصة إبان انتشار الفكر النهضوي العربي، إذ أوصلت الفكر إلى دائرة التداول الأوسع، بلغة تصل إلى أبعد من النخبويين. إن تبسيط الأفكار، وجعلها في متناول أكبر شريحة من المجتمع بات أمراً أكثر من مُلِح في الحالة الراهنة.




ما رأيك بأوضاع المثقفين وغيابهم عن الدور في لبنان، وهل موقعك في الحركة الثقافية إنطلياس يكفي؟


لذا، الاستقالة من العمل الفكري ليست واردة بالنسبة إليّ، مهما كان حجم التعتيم، أو التحجيم، أو التهميش الذي يعاني منه الفكر الفلسفي في لبنان أو خارجه، ليست آخر فصوله عملية تقليص منهاج تدريس الفلسفة في المرحلة الثانوية، وجعله مشوّها، لا يعكس حقيقة ما أراده منه واضعوه في السابق. تاريخ الفكر يشهد على لحظات ذروة، وفترات انكفاء، لكن الفكر يستمر في التوقّد كما النار، لا تخمد إلا لتعود فتشتعل وفق ما نمدّها بالطاقة. التزامي بالعمل في إطار الحركة الثقافية، أنطلياس، في ظل هذه الظروف بالتحديد يشير إلى رغبة عارمة بعدم الاستسلام، ولا بالرضوخ لشروط الواقع المأزوم. معظم من تستضيفهم الحركة على منبرها لمناقشة كتبهم يحملون طروحات جدية، وأفكاراً إصلاحية، واقتراحات ترسم مسارات متعدّدة للإنقاذ، وهم جديرون بأن نلاقيهم عند منتصف الطريق، ونتلقّى فكرهم بهدف الحوار والمناقشة، ولمزيد من الإضاءة على معالمه.


ما تقوم به الحركة الثقافية، أنطلياس، وغيرها من المنابر الثقافية في البلد، يستحقّ الدرس والمراجعة. يتعلّق الأمر بفعل مقاومة حقيقي، يُشهر سلاح المعرفة والنقاش في وجه الجهل وأحادية الرأي. ما يتمّ تداوله على المنابر يمكنه أن يؤسّس لوطن جديد، وذهنية مختلفة، وهو يُسهم في تحفيز الرأي العام على التغيير، في حال وصل إلى أكبر شريحة ممكنة من اللبنانيين. المشكل، أن هناك عوائق عدّة تمنع المهتمّين من الحضور إلى مكان الندوة، والمشاركة في النقاش عن كثب. حاولنا أن نستفيد من وسائل التواصل الاجتماعي لكي نصل إلى أكبر عدد من المهتمّين بشؤون الفكر والوطن، لكن ما زلنا في أول الطريق، وتنقصنا الخبرة في هذا المجال، كما الدعم، للاستفادة من تطوير النشر الالكتروني.


كيف تقوّمين وضع الفكر العربي من الناحية الإنتاجية ومن ناحية التأثير والحضور والعلاقة بالمجتمعات؟

النظر في واقع الفكر العربي، وما يُنتجه على الصعيد المعرفي يتطلّب دراسة دقيقة، ترصد ما تقدّمه دور النشر، والصروح الأكاديمية، ومراكز الأبحاث. الأمر الذي ما زال غير متوفر، لغاية الساعة. لكن ما نلحظه في المقابل، ازدياد عدد معارض الكتب، وكثرة المواد المنشورة حديثاً، وارتفاع نسبة مبيعات الكتب، وغنى البرامج المرافقة لفعاليات هذه المعارض، من ندوات، ومقابلات، وتواقيع كتب، وغيرها... ما هي نتيجة هذا الحراك؟ كيف العمل على رصده ومتابعة أثره؟ أين هي الإحصاءات الدقيقة لما يتمّ عقده من مؤتمرات، ولقاءات فكرية مع مفكرين نقديين يحملون طروحات جديرة بالدرس والنقاش؟ وكيف يتمّ تلقّي كل ذلك من قبل الفاعلين الاجتماعيين؟ كلها أسئلة تشير إلى نقص في المعطيات التي تسعف الباحث في درسه لواقع الحراك الثقافي على الساحة العربية المعاصرة. من هنا، أي تقويم لا يستند إلى معطيات دقيقة، لا يمكنه أن يجدي نفعاً. علينا أن نعترف بضعف الإحصائيات عندنا، إن في لبنان أم في العالم العربي، وإن وجدت، فإنها لا توضع في متناول الجميع، لكي يتمّ درسها والبناء عليها، كما يجب.


هل برأيك أخفق الفكر العربي المعاصر في إقامة علاقة مع الإنسان العربي، هل ابتعد عن هموم الناس وقضايا المجتمعات أم المجتمعات ابتعدت عنه، ولماذا؟


لا تحتاج الأمور إلى كثير من الدرس للإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب. نعم، للأسف، الهوة كبيرة بين الفكر والشارع العام، بين النخبة والحراك المجتمعي، بين من هم داخل الأروقة الأكاديمية ومن هم على الشاشات وفي الساحات. الهوة ليست كبيرة وحسب، إنما تزداد اتساعاً مما يُفاقم الخطورة، ويُنذر بمستقبلٍ قريب غير مطمئنٍ للجميع. فمعظم من هم في موقع الفاعلية ويشعرون بأن وضعهم مهدّد، ويعملون على استنفار قواهم، وتجميع أكبر عدد من المؤيّدين من حولهم، ما عدا أهل الفكر النقدي المعاصر. نجد أكثرهم أمام خيارين: الخيار الأول: يكمن في الانكفاء يأساً، أو الهجرة إلى حيث تسنح لهم الفرصة للتعبير الحر، والعمل المنتج، والاستقرار، اختاروا ذلك سبيلاً لإنقاذ ما تبقّى لهم من عمر. الخيار الثاني: يكمن في الاستمرار حيث هم، داخل الدائرة النخبوية الضيّقة، يكتفون بالتداول مع أهل الاختصاص، يشتكون، يتذمّرون، يعبّرون عما يؤلمهم، يُفصحون عن قلقهم بشأن الواقع وما ينتظره من تحوّلات، لكن، من دون السعي الحثيث إلى إشراك المعنيين الآخرين، عنيتُ بهم جيل الشباب، وباقي الأفراد غير المتخصّصين بشؤون الفكر. لعبة المشاركة لا يُتقنها الجميع، وفن التواصل لا يتمتّع به، أو لا يرغب فيه، معظم من انغمس في التنظير وارتقى في التحليق داخل عالم الفكر المجرّد.


لكن، يجب ان نلحظ هنا، تجنّباً لأي تعميم، خياراً ثالثاً، يظهر عند كل من يحاول ردم الهوة، والعمل على التواصل مع الشارع، مع الرأي العام السائد في كل منطقة عربية، مع شرائح المجتمع المتنوعة. هؤلاء، هم في نظري، المفكرون الذين يحتاج إليهم الوطن العربي في اللحظة الراهنة، إذ لا ينقصنا مبدعون في التنظير، ولا في البحث الأكاديمي الصارم، بقدر ما نفتقد إلى من يُتقن لغة التواصل والحوار، والمقدرة على تبسيط المجرّد لجعله مدرَكاً قدر المستطاع. هناك للأسف من يعتقد أن رهبة المفكر وهيبته قد يتمّ الانتقاص منهما، وأنه عليه الحفاظ على بروتوكلات معيّنة في التعاطي مع الشارع، خشية أن يفقد منزلته المرموقة. هذه الخشية، وإن كانت مبرّرة عند البعض، لكنها تُسهم في عزله، وعزل فكره، وتهميشه بشكل شبه كلّي بالنسبة إلى الآخرين. إن هذه المسلكية سلاح هي بمثابة سلاح ينقلب على صاحبه، مما يؤذي انتشار فكره بالدرجة الأولى. ويبقى في النهاية السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه: لمن نكتب؟ يتبعه بالتالي سؤال آخر: ما هو هدف كل الجهد الهائل الذي يبذله المفكر في أي عملية بحث جدّي ورصين؟


نحن إذن، نفتقدُ اليوم إلى التواصل العميق والمبني على أسس الحوار والانفتاح والاعتراف بالضعف من أجل الاشتغال على أسبابه والسعي إلى معالجته. نعيش اليوم في خضم أزمة تواصل فعلي، على رغم التقنيات الحديثة والمتجدّدة في هذا المجال. هناك جسور في الإمكان العمل على بنائها، وقنوات في الإمكان السعي إلى شقّها، وذلك من أجل إحداث خرقٍ ما في الجدار الفاصل بين المفكرين والمبدعين من جهة، وباقي المواطنين المنشغلين بأمور عدّة تبعدهم، بشكل أو بآخر عن عالم الفكر، من جهة أخرى. إن عملية السعي إلى تطوير النظر في أمور الفكر وكيفية نشر المعرفة أصبح همّاً يطرح نفسه بقوة اليوم على كل من يعنيه إحداث تغييرٍ يُذكر على الصعيد الجماعي، في اتجاه تحديث الذهنية، وتطوير الفكر النقدي، من مثقفين، وإعلاميين، وتربويين، وأساتذة جامعيين.

MISS 3