باسمة عطوي ورنى سعرتي

هل سقوطه يعني سقوط حجر زاوية في بنية المنظومة الفاسدة والمتسلّطة؟

"شو ماسك رياض عالسياسيين؟"... سؤال يطرحه معظم اللبنانيين!

29 أيار 2023

02 : 00

- توظيفات بأعداد كبيرة في مصرف لبنان على أساس المحسوبيات والنفوذ السياسي

- إنترا للشيعة والكازينو للمسيحيين والميدل إيست للسنّة... من نماذج التوزيع الزبائني

- قروض مدعومة للسكن والإعلام والتكنولوجيا تخللتها محسوبيات وأفضليات وتنفيعات

- عمليات دمج وإنقاذ مصارف بقروض ميسّرة من الأموال العامة والودائع الخاصة

-هندسات مالية أرباحها بالمليارات ذهبت لمصرفيين وكبار مودعين من توابع السياسيين

- تغطية تبييض أموال وتهرب ضريبي وأموال فساد دخلت البنوك وخرجت منها... بسلام

- اشترى للمنظمومة وقتاً طويلاً وهو العالم علم اليقين بسوء الإدارة والفساد والهدر

- ثبت سعر صرف الليرة لمنح قدرة شرائية وهمية دفعت بالناس للتصويت لفاسدين

- تسهيلات وقروض مدعومة او غير مدعومة لا تسدد وتشطب من ميزانيات البنوك

- تسهيلات لسياسيين يملكون مصارف متعثرة... أثرتهم على حساب المال العام والمودعين

- دعم تجار ومستوردين نافذين محسوبين على سياسيين ومنحهم دولارات المودعين

- إستخدام "صيرفة" لشراء الوقت لمنظومة كانت على قاب قوسين أو أدنى من السقوط المدوّي

- غضّ الطرف عن تحويلات وتهريب أموال إلى الخارج بعد انتفاضة 17 تشرين

- عقود وهمية لنواب وسياسيين وإعلاميين ومحسوبين على هذا وذاك من النافذين

- تنفيعات وخدمات ذهبت لكبار ضباط وقضاة وموظفين يشغلون «الدولة العميقة»

- الحماية السياسية والطائفية والأمنية والقضائية لسلامة... خير دليل على تواطؤ مصالح

- تمويل الدولة إدعاء باطل والصحيح هو تمويل تحاصص في الوزارات والإدارات والمرافق

- سياسات مصرف لبنان جنّبت السياسيين مرارة الإصلاحات وضرورات الضرائب العادلة

- دعم مؤسسات ومرافق معيّنة كانت تدرّ منافع تستخدم في تمويل الأحزاب والإنتخابات

- 40% من المصارف تعود ملكيتها لسياسيين وكانت تحظى بمعاملات خاصة من «المركزي»

- تجنّب التدقيق الجنائي الحقيقي في حسابات مصرف لبنان يؤكد أن وراء الأكمة ما وراءها

- عدم تعديل السرية المصرفية كما يجب وعدم التدقيق في بنية الودائع... لحماية فساد كبير



تستبسل المنظومة السياسية والمصرفية والقضائية والميليشياوية في الدفاع عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بشتى الوسائل، لتجنيبه تجرّع كأس المحاسبة الفرنسي والاوروبي بتهم الاختلاس والتزوير والتهرب الضريبي وتبييض الأموال. ولا تتورع عن الضرب بعرض الحائط كل المعايير القانونية والدستورية التي توجب اقالته من منصبه بعد صدور مذكرة توقيف بحقه من قبل الانتربول. حتى أنهم لم يلتفتوا الى المعيار الاخلاقي كقاعدة للتعاطي بالشأن العام واتخاذ القرارات المصيرية. علماً أنه عند تفنيد كل التطورات التي حصلت في الملف القضائي، الذي على أساسه يلاحق سلامة، يظهر أن بقاءه في منصبه يشكّل فضيحة وخسارة كبيرة لسمعة لبنان اقتصادياً ومالياً، وأن حمايته من قبل المنظومة السياسية والمصرفية والقضائية تعني أنهم جميعاً شركاء بشكل او بآخر في الاختلاس والتزوير والاثراء غير المشروع والتهرب الضريبي وتبييض الاموال وتبديد ودائع اللبنانيين، سواء بشكل مباشر او غير مباشر. بمعنى آخر، وبحسب تعبير أحد الخبراء بملف سلامة،»هو طرف الخيط وإذا كرّ تكرّ معه خيوط شبكة الفساد».

الحاكم أقوى من الجميع؟

الوصول الى هذه المحصلة، ليس نتيجة «حقد طبقي» أو اطلاق شائعات بهدف الاضرار بالسمعة. واجماع كل المنظومة على عدم اقالته (وادعاء تحويل الملف الى القضاء اللبناني ليبت بالامر كما قال امين عام حزب الله، علماً بأن القضاء ممسوك او نقبع القاضي!)، يدل أيضاَ وربما على أن حاكم المركزي أقوى منهم جميعاً وهم خائفون من أن يفضحهم او يفضح حلفاءهم، بعد أن ارتبط وإياهم وعلى مدى ثلاثين عاماً بشبكة خدمات وتنفيعات وسمسرات أدت بالبلاد والعباد الى الحضيض المالي والاقتصادي والاجتماعي. وليس أدل على هذه القوة التي يملكها الا قوله في مقابلته الاخيرة «ان على القضاء أن يبدأ بالتحقيق مع السياسيين بداية وليس معه».

التعاون المثمر

هذا الكلام لا يطلقه سلامة من فراغ أو «للهوبرة»، بل لأنه يعرف في مكان ما أن بينه وبين المنظومة شراكة لا يمكن لعدد من الاطراف النافذة الافلات منها وهي نتيجة تراكم سنوات من «التعاون المثمر»، حوّل خلالها البنك المركزي الى مرتع خدمات، وباباً مشرعاً لتغطية عجز الموازنة العامة بكل فسادها وزبائنيتها في عدد من بنودها، مع تمسك بتثبيت سعر الصرف لكي تتمكّن هذه القوى من احكام سيطرتها على كل مفاصل الدولة، من دون «شوشرات» شعبية يمكن ان تحصل بسبب عدم استقرار نقدي بين الحين والآخر كما يحصل حالياً في تركيا أو مصر أو الأرجنتين.

و من أوجه هذا «التعاون بالمنافع»، كان أي مصرف متعثر وتابع لإحدى القوى النافذة يتم انقاذه من قبل المركزي (بنك الموارد مثالاً ). فضلاً عن حشو موظفين تابعين للقوى السياسية في مصرف لبنان وبأعداد كبيرة لم يشهدها البنك المركزي من قبل، وتغطية عجز الموازنة من أموال مصرف لبنان والمودعين وليس من خلال فرض اصلاحات وضرائب عادلة وحوكمة رشيدة تمنع الهدر وتقمع الفساد. والهدف هو الابقاء على سياسة الانفاق الزبائني التي تريدها المنظومة من دون زيادة الضرائب لا سيما على الشرائح المليئة، وعدم تحرير سعر صرف الدولار بادعاء حماية الطبقات الفقيرة!

إستغلال خبيث للقوانين

ومن المفيد الاشارة الى أن كل هذه التجاوزات التي حصلت، كانت من خلال استغلال سلامة والمنظومة لقانون النقد والتسليف الذي لم يكن واضحاً في مواد منه تحمل تأويلات (بحسب قراءات مشبوهة لروح النص لا حرفيته)، فتاهت حدود استقلالية المركزي عن سلطة الحكومة ومجلس النواب في ما يتعلق بتثبيت سعر الصرف وبإقراض الدولة وعمليات كثيرة أخرى لا سيما مصرفياً.

كما أمعنت المنظومة وعلى مدى 30 عاماً باقرار تشريعات تلزم مصرف لبنان بإقراض الدولة واستجاب لها سلامة ببساطة وطواعية في الوقت الذي كان باستطاعته الرفض بالاستناد الى مواد صريحة في قانون النقد والتسليف تحدد ذلك في اطار طوارئ واستثنائياً. كما أن الحكومات المتعاقبة أقرّت في بياناتها الوزارية كافة التزامها بتثبيت سعر صرف الليرة، ونفّذ المركزي هذا التعهد على حساب اموال المودعين من دون اعتراض علماً بأن حكاماً سابقين للبنك المركزي رفضوا ذلك عندما كان مستحيلاً دعم الليرة، واستطاعوا الحفاظ على القطاع المصرفي مقابل انهيار القطاع امام اعين سلامة... وبسبب سياساته الخاطئة.

مبررات الإقالة

قبل تفصيل بعض الاوراق «المشبوهة» التي يملكها سلامة في وجه المنظومة، والتي يلوّح بها مناصروه من حين لآخر تطبيقاً للمثل القائل «علي وعلى أعدائي»، لا بد من الاشارة الى أنه من الناحية القانونية، ليس صحيحاً ما تعلنه الحكومة (بموافقة القوى السياسية) أنه لا يمكن اقالته. ففي قانون النقد والتسليف مادة تنص على وجوب ذلك، في حال ارتكاب خطأ فادح في تسيير المصرف المركزي، وهل هناك أفدح من خسارة الليرة 97% من قيمتها وتحول القطاع المصرفي الى قطاع متعثر في جانب منه ومفلس في آخر بلا أي سيولة ولا أي ملاءة؟

وعن المخالفات المباشرة، فانه مخالف لاحكام القانون التي تتعلق بمنعه في أن تكون لديه حقوق في شركات مرتبطة بمصرف لبنان تدر عليه منفعة خاصة مثل شركة «فوري» التي وضعها صورياً باسم شقيقه واستفاد من عمولاتها. ومثل شقة في باريس استأجرها مصرف لبنان وحصد منها سلامة الملايين وهي باسم صديقته آنا كوزاكوفا.

وهذه الافعال كلها ارتكبها سلامة بالشراكة مع المنظومة او تحت أعينها ورضاها، وهي بين أسباب وقوع الازمة. كما ان تذرع الحكومة بأنه لا يمكنها تعيين بديل أمر غير دقيق أيضا. لأن قانون النقد والتسليف نفسه أوجد البديل في ظروف كهذه وهو نائب الحاكم الاول الذي تعترض المنظومة على استلامه لحسابات سياسية مذهبية وطائفية. لذلك ارتأت تحويل الملف الى القضاء، لكي تتخذ ما يراه مناسباً من دون ان تتحمل المسؤولية، مما يؤمن لسلامة إحدى أوراق قوته وبقاءه في منصبه حتى نهاية ولايته... ثم حمايته لاحقاً.

نوعان من الشراكة!

يشرح سياسي مخضرم ووزير اصلاحي سابق لـ»نداء الوطن»، «أن المصالح المشتركة التي تربط المنظومة بسلامة هي على مرتبتين. الأولى: هي بالمفرق أي من خلال مؤسسات الدولة التي يملك المركزي فيها القرار الاساسي، مثل شركة (بنك) انترا التي كانت باباً لانتفاع قوى شيعية، وكازينو لبنان الذي تسيطر عليه الاحزاب والقوى المسيحية، وشركة طيران الشرق الاوسط التي تنتفع منها القوى المسيطرة في الطائفة السنية»، لافتاً الى أن «هذه المؤسسات مملوكة من المركزي لظروف معينة، وقد وزّعها سلامة على السياسيين بطريقة غير مباشرة، لتمويل أحزابهم ومشروعاتهم وحملاتهم الانتخابية، اضافة الى تسهيل منحهم قروضاً لا يتم تسديدها للمصارف، وكان المركزي يبادر الى تغطية هذه الخسائر (بنك البحر المتوسط نموذجاً).

يضيف: «كما كان مصرف لبنان يدعم مصارف يملكها سياسيون من خلال منحهم قروضاً بفائدة قليلة ومن بعدها يستدين منهم بفوائد عالية. وهذا كله من المال العام. أما المرتبة الثانية من الشراكة، فهي الاهم لأنها تستند الى علاقات بالجملة، موضحاً أن «التركيبة السياسية التي نشأت وأمسكت البلد بعد الحرب الاهلية، قامت سلطتها على توزيع المنافع والتناحر في ما بينهم عليها. ولكي لا يستمر هذا التناحر، كانت هناك وظيفة حيوية مولجاً بها مصرف لبنان. فكان بمثابة القلب الذي يضخ الدم في شرايين نظام الانتفاع الطائفي من خلال تثبيت سعر الصرف، وتمويل العجوزات والتغطية على خسائر بنيوية للاقتصاد ككل في مؤسسات عامة وخاصة.

التحكم بالقطاع المصرفي

وقام بترويض القطاع المصرفي والاحتيال على الناس لجذب الودائع الى المصارف ثم اليه، ليتصرف بها على هواه وهوى المنظومة. ويختم: «هذه وظيفة تتخطى بأهميتها الخدمات بالمفرق التي كان يسديها لهم. وهو ما اعلنها صراحة أكثر من مرة، بأن له الفضل في بقاء هذه المنظومة السياسية الاجتماعية والاقتصادية لمدة 30 عاماً، وبأنه لن يقبل بأن يكون كبش محرقة لهم، وهذه العلاقة العضوية هي التي اطالت عمر المنظومة كل هذه السنوات.

في الشق المصرفي، يشرح خبير متخصص لـ»نداء الوطن»، أن «وجود الحاكم على رأس السلطة النقدية في لبنان لمدة 30 عاما أفسح له مجال التحكم بكل ما يتصل بالقطاع المصرفي خارج اطار المؤسسات، اي بعيداً عن الحاكمية (المجلس المركزي) ولجنة الرقابة على المصارف»، لافتا الى أن «القانون والعرف والممارسة اعطت لشخص الحاكم سلطة اجرائية كبيرة جداً. وهذا ما سمح له باعطاء تسهيلات كبيرة للمصارف، على شكل قروض بفوائد منخفضة او من دون فوائد أو ايداعات كبيرة أو هندسات مالية.

إنقاذ بنوك

يضيف: «ابرز مثال على تقديم الاموال للمصارف، هو ما حصل عليه بنك الموارد من اموال مقابل رهن أسهم، وتمكّن المصرف بواسطة هذه الاموال والتي تقدر بمئات ملايين الدولارات ان يحقق ارباحاً من خلال اعادة استثمارها بسندات خزينة بفوائد مرتفعة. وهذه الالية اتبعها سلامة مع المصارف الاخرى والمساهمين فيها»، مشدداً على أن «هذا ما يثير شبهات في علاقة الحاكم بالقطاع المصرفي ومن وراءه. خصوصا ان 40 بالمئة من هذه المصارف هي ملك الطبقة السياسية ويستفيدون منها مباشرة. والمثل الواضح هو بنك الموارد وليس صدفة ان يعلق مروان خير الدين في التحقيقات الفرنسية.

قروض ميسرة ودمج مصارف

ويلفت الى أن «التسهيلات التي تحكّم فيها سلامة كبيرة، ومنها القروض الميسرة وسرعة دمج المصارف التي طالتها العقوبات، مثل المصرف اللبناني – الكندي وبنك جمال وبنك المدينة. وكل هذه التسهيلات التي حصلت للهروب من العقوبات تحت شعار «حماية القطاع»، وفعلياً كانت لحماية السياسيين ومن يقف وراء هذه المصارف.

ويشير الى أن «المثل الاخر هو التعميم رقم 331، والذي وضع 400 مليون دولار للقطاع المصرفي مع صفر فائدة حتى تقرضها بادعاء دعم الاقتصاد الرقمي والشركات الناشئة في القطاع الخاص، وهذا المبلغ ادارته شخصياً مساعدته ماريان حويك. والى الآن لا معلومات تحدد بوضوح الشركات التي استفادت من هذا التعميم». الى ذلك هناك «الفضيحة الاكبر التي ارتكبها الحاكم وتعتبر إحدى اوراقه في وجه المنظومة، وهي التحويلات التي حصلت بعد تشرين الاول 2019، حيث أعلنت المصارف عدم التحويل وتّمت تغطية هذا القرار بتعميم صدر عن المركزي بعدم التحويل. لكن حولت مبالغ كبيرة. وتثبت وثائق تتسرب تباعاً ان التحويلات شملت عشرات ملايين الدولارات لسياسيين وللحاكم نفسه او ابنه، وهذا ما يفتح باب ملاحقة العديد من السياسيين اذا تم الكشف عنها.

ويختم: «منصة صيرفة وطريقة شراء الدولارات من السوق كانت أحد عناصر الشراكة بين الحاكم والمنظومة، والتي حققت فيها القاضية غادة عون حول مدى لعب المركزي دور المضارب خدمة لمصالح خاصة، وتعويم السوق السوداء لتأمين المنفعة لأزلام الاحزاب والميليشيات.

ملتقى المصالح

من جهته يرى صحافي اقتصادي استقصائي لـ»نداء الوطن» أن «هناك مصالح مشتركة تجمع بين الحاكم والمنظومة، مقابل خلاف سياسي بين أعضائها يمنع اقالته. وتحاول هذه القوى كسب الوقت بانتظار حل سياسي قبل انتهاء ولايته، يؤدي الى تعيين حاكم جديد.

يضيف: «المركزي هو الملتقى للمصالح التي تتجمع في القطاع المالي وتتقاطع مع الدولة. وأغلب العمليات التي كانت تحصل بين المصارف والدولة، وبين بعضها البعض كانت عبر تسهيلات وتحويلات تصدر من مصرف لبنان»، مشدداً على أنه «شريك في هذه العمليات التي تمت. مثلا حين كانت المصارف تعترض على تأمين الاستدانة للدولة لأنها كانت تكسب فوائد من القطاع الخاص بدرجة أكبر من الفوائد التي تجنيها من تأمين الاستدانة للدولة، كان سلامة يعمد الى طرح شهادات ايداع بفوائد عالية بتوظيفات معينة ويتكبد هو الخسارة لتأمين الاموال له وللدولة».

تغطية الموبقات

ويؤكد أن «كل الاحتكارات وعمليات تهريب وتبييض الاموال والتهرب الضريبي التي حصلت، كانت عبر عمليات مصرفية يحتاج كشفها الاطلاع على الحسابات. وهذا يعني أن مفتاحها عند سلامة رئيس هيئة التحقيق الخاصة والهيئة المصرفية العليا وهيئة الاسواق المالية وله اليد الطولى في لجنة الرقابة على المصارف. إنه بحكم موقعه في الحاكمية ومواقع أخرى قبِل بتغطية هذه العمليات وعدم الكشف عنها، وتغطية التوزيع المالي الذي كان يحصل بين القوى السياسية»، لافتاً الى أن «هذا يعني أن من مصلحة هذه القوى ابقاءه في منصبه لتسوية هذه الملفات قبل مجيء بديل عنه. والامر الاساسي الذي يمنع الكشف عن هذه الحسابات لاحقاً هو تمسك السلطة السياسية بالسرية المصرفية، فتكون الذريعة لحماية نفسها مع سلامة أو من دونه. وكل التقارير المحاسبية التي ينجزها المركزي بطرق معينة هي لمساعدة السلطة السياسية ولتكون منطلقاً للخروج من اي ورطة قد تقع فيها لاحقاً.

ويلفت الى أن «سلامة على اطلاع على كيفية توزيع الاموال على طريقة قروض بفوائد منخفضة، بين القوى السياسية تحت صفات مختلفة وعلى سنوات طويلة. ويمكن ان يعتبرها المركزي لاحقاً قروضاً متعثرة غير قابلة للتحصيل ويطلب شطبها»، مشدداً على أن «هذا يعني أنه مشارك في حسابات مصرفية قد يكون فيها تهرب ضريبي وتبييض وتهريب اموال، مما يجعل الجميع حريصين على عدم خضوعه لتحقيقات من قبل جهات خارجية، لانه حين يفتح كل هذه الملفات ستسقط رؤوس كبيرة».

سلامة النقد...تجليطة

يصف الصحافي الاستقصائي التسويق بأن عدم اقاله سلامة هو لاستقرار الدولار بأنه «تجليطة». لأن الآلية التي يتبعها لعدم رفع دولار السوق السوداء هي استخدام دولار مصرف لبنان لشراء الليرة لتجفيف السوق منها، فتلقائيا يخف الطلب على الدولار ويستقر سعر الصرف. ويختم: «هذا يعني أنها آلية مضاربة، وهذا الدور يمكن ان يقوم به اي كان، والمشكلة هي كون مصرف لبنان يتحمل الخسائر في عمليات الشراء والبيع لتأمين الاستقرار على حساب أموال المودعين، وهذا أمر مطلوب منه من قبل السياسيين لكسب الوقت بانتظار الحلول السياسية الاقليمية التي يمكن ان تنقذ بعضهم».

إذا وقع... ستقع المنظومة

«إذا وقع رياض سلامة، ستقع معه المنظومة». بهذه العبارات يصف معظم اللبنانيين المسار القضائي الذي بدأ بملاحقة حاكم مصرف لبنان دولياً، خصوصاً ان سلامة في أوّل ظهور إعلامي له بعد صدور مذكرة التوقيف الفرنسية بحقه، نصح «القضاء في البدء بملاحقة السياسيين وليس حاكم المصرف المركزي» مشيراً إلى أنهم «يستهدفون حاكم المصرف المركزي لأنهم يخشون استهداف السياسيين».

وبما ان الحكومة والطبقة الحاكمة تتلكآن عن مسؤوليتهما في إقالة حاكم مصرف لبنان بعد اعلانه بقاءه في مركزه لحين انتهاء ولايته، فهذا دليل على مسعاها لحماية المصالح المتشابكة بين السياسيين وسلامة، ومؤشر أيضا على جهل الطبقة الحاكمة في استباق العواقب السلبية الخطيرة لاصدار مذكرة توقيف دولية بحق حاكم بنك مركزي على النظام المصرفي ككلّ، ولو ان تلك العواقب لم تظهر بعد كلها.

صرخة سعادة الشامي

في هذا السياق، قدم نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي مطالعة لرئيس الحكومة تعبّر عن موقفه بوضوح بشأن مذكرة التوقيف الدولية بحق رياض سلامة، بعد الاجتماع الوزاري التشاوري الذي عقد اوائل الاسبوع الماضي. ويكاد الشامي يكون الوحيد من بين أعضاء هذه الحكومة على دراية بتداعيات وخطورة اصدار مذكرة توقيف دولية بحق حاكم المركزي (بغض النظر عن شخصه او الاتهامات الموجّهة ضدّه)، حيث لم تقارب الحكومة الموضوع بأقصى درجة من الجدية المطلوبة نظراً لحساسية الموقع، بل سعت للتغاضي عنه كأن شيئاً لم يكن وكأن ليس له ارتدادات على السياسة النقدية، والقطاع المصرفي وعملية الاصلاح الاقتصادي بشكل عام.

وفيما سأل الشامي في المذكرة المرسلة منه الى رئيس الحكومة: «هل يعقل ان يكون حاكم أي بنك مركزي ملاحقاً عالمياً ويبقى في مركزه يمارس صلاحيته؟»، يسأل كثيرون لماذا تواظب الطبقة الحاكمة على حماية سلامة. وممَّ تخشى المنظومة في حال قرر سلامة فضح مخالفاته المشتركة مع السياسيين؟

تفريط باستقلالية البنك المركزي

يعتبر مسؤول سابق في صندوق النقد الدولي ان المشكلة الاساسية بدأت في لبنان مع فقدان البنك المركزي استقلاليته التي كانت قائمة تاريخياً. واصبحت علاقة المركزي مع السياسيين قوية جدّاً منذ تولي سلامة رئاسة الحاكمية. وبات مصرف لبنان يعمل كوسيط مالي لصالح الدولة إن كان عبر عمليات الدعم المالي الذي قدمه لمؤسسة كهرباء لبنان او دعم السلع الغذائية والادوية.... والتي تعتبر جميعها اجراءات مالية يجب ان توضع اعتماداتها ضمن ميزانية الدولة وليس البنك المركزي.

واشار المسؤول الى ان علاقة سلامة والسياسيين بدأت منذ اليوم الأول لتوليه منصبه. عندما سمح لهم بالتدخل في سياسات سعر الصرف والسياسات النقدية. آنذاك، تمّ اصدار سندات خزينة بأسعار فائدة خيالية في غياب أسواق مالية متطورة في لبنان، مما ادى الى تحديد اسعار الفائدة بطريقة غير شفافة. لافتا الى ان السياسيين المتعاقبين استغلّوا عدم استقلالية المصرف المركزي وعلاقتهم المتينة بسلامة لصالح قضايا من خارج صلاحيات البنك المركزي. وذكر على سبيل المثال، ان كافة الهندسات المالية التي قام بها مصرف لبنان صبّت لصالح أشخاص نافذين وسياسيين او لصالح البنوك ومن تمثّل. وفي الوقت نفسه، لفت المصدر الى انتقال البنك المركزي من تركيزه على السياسات النقدية وسياسات سعر الصرف الى تركيزه على السياسات المالية ليتحوّل الى ما يشبه بنكاً للتنمية، عبر منحه قروضاً مدعومة موجّهة لتكنولوجيا المعلومات والإعلام والسكن... وهي الأداة التي استخدمها لافادة أشخاص وسياسيين ومؤسسات او كيانات محددة.

وشدد المصدر على ان العمل الذي قام به الحاكم من خارج صلاحيته أدّى الى إفلاس البنك المركزي. وهي سابقة تحصل للمرة الاولى عالمياً، والى وقوع تشوّهات كبيرة بالاقتصاد.

وفي ظل غياب أسواق مالية متطورة في لبنان، لم يكن هناك من وسيلة لمعاقبة السياسات الاقتصادية الخاطئة وغير المستدامة التي طبّقت من قبل حاكم المركزي الذي كان ولا يزال يقوم بعمل one man show.

تهريب الأموال

ومن الاخفاقات الحديثة التي قام بها البنك المركزي بالتعاون مع السياسيين أيضاً، عدم الموافقة على اقرار الكابيتال كونترول بعد اندلاع الازمة في تشرين الاول 2019، مما سمح بخروج مبالغ كبيرة من لبنان الى الخارج، وبتحويل ودائع أفراد معنيّين من الليرة الى الدولار على سعر صرف الـ1500 ليرة وتحويلها الى الخارج. وسأل: من استفاد من القروض الممنوحة بالدولار والتي سددت لاحقاً بعد انهيار سعر الصرف على الـ1500 ليرة؟ هل يملك سلامة أسماء هؤلاء الاشخاص؟

أضاف: مما لا شك به ان هناك تشابكاً في المصالح بين سلامة والمافيا القائمة في لبنان مما يستنتج منه ان سلامة والسياسيين كانوا على تنسيق كامل ومتواصل بدليل المعارك التي كانوا يخوضونها للتجديد له عند انتهاء ولاياته، بذريعة ان لا بديل عنه وانه «حامي» الليرة والاقتصاد.

ختم المسؤول السابق في صندوق النقد قائلا: أي حاكم يتمتّع بالوطنية الكافية لكان استقال منذ اليوم الاول لصدور مذكرة التوقيف بحقه. وإذا لم يفعل، فعلى الحكومة ان تتجرأ وتقيله من منصبه، نظراً للعواقب اللاحقة التي قد تنتج عن صدور مذكرة توقيف دولية بحق حاكم البنك المركزي.

صفقات وسمسرات

في سياق متصل، تعتبر مصادر مصرفية ان ما قاله رياض سلامة في إطلالته الاعلامية الاولى بعد صدور مذكرة التوقيف بحقه، ليس ابتزازاً للسياسيين بل تهديداً لهم. معتبرة ان الحاكم امضى 30 عاماً على رأس البنك المركزي وما «يملكه من معلومات او ملفات تدين ليس فقط سياسيين بل رجال دين وكبار تجار وافراداً نافذين». واشارت المصادر الى ان الاخفاقات التي حصلت من قبل سلامة قبل العام 2016، مرتبطة بغالبيتها بعمليات دمج وشراء المصارف والتسهيلات التي منحها مصرف لبنان لاتمام عمليات استحواذ مصارف لبنانية على حصص في مصارف اخرى. مذكّرا بصفقة شراء البنك اللبناني الكندي من قبل والتسهيلات التي حصل عليها البنك الدامج من قبل مصرف لبنان، وبصفقة شراء مجموعة ميقاتي حصة 28% لـ EFG Hermes في بنك عوده بقيمة 450 مليون دولار والتسهيلات التي حصلت عليها مجموعة ميقاتي (150 مليون دولار) لاتمام هذه الصفقة وكيفية اعادة تسديد هذه التسهيلات المالية والتي تمّ التحقيق بها من قبل القاضي جان طنّوس. بالاضافة الى صفقة شراء بنك بيبلوس لبنك فرعون وشيحا، وبنك بيروت لبنك بيروت والرياض... مشيرة الى ان كافة عمليات دمج المصارف كانت تشمل تسهيلات تحصل عليها المصارف من قبل حاكم مصرف لبنان الذي كان يتصرّف بسيولة البنك المركزي بالطريقة التي يشاء!

إخفاء الخسائر

اما بعد العام 2016، وتحديداً عقب تقرير صندوق النقد الدولي فقد شطب مصرف لبنان آنذاك 14 صفحة منه للتغطية على الوضع المالي المأسوي الذي اشار اليه التقرير والفجوة المالية في البنك المركزي التي حددها بـ4,7 مليارات دولار. وتراكمت تلك الفجوة حتى زادت على 70 مليار دولار في سنوات قليلة. وأشارت المصادر المصرفية الى ان رياض سلامة بدأ الهندسات المالية بعد ان قال له رئيس وفد بعثة صندوق النقد الدولي «انتم على شفير الهاوية»، وهي الهندسات التي درّت 5 مليارات و600 مليون دولار ارباحاً للمصارف بشكل مباشر واكثر منها بشكل غير مباشر وهذا ما فاقم الفجوة في حسابات مصرف لبنان - العجز

بعد الهندسات المالية، ذكرت المصادر الى ان الحاكم بدأ التفريط باحتياطي مصرف لبنان من العملات الاجنبية من خلال سياسات الدعم التي اعتمدها والتي استفاد منها تجار على علاقة متينة بالسياسيين.



MISS 3