أطلق الوزيرُ السابق محمد شقير تجمّع «كلّنا لبيروت» ليعلن بذلك افتتاح دخوله «المستقلّ» إلى الحلبة السياسية مستجمعاً بعض أهمّ قيادات «تيار المستقبل» الذين قرّروا خوض هذا الغمار، في خطوة لا يمكن تفسيرها سوى أنّها إقرارٌ غير مباشر بأنّ فترة إنتظار عودة الرئيس سعد الحريري قد انتهت، وأنّه لا بُدّ من التحرّك قبل أن تسقط الفرص المتاحة لاستجماع جزء من الساحة السنيّة التي أصبحت متوزِّعة على تجمّعات نيابية بينما لا يملك من يتمسّك بالتيار «الأزرق» أيّ أفقٍ سياسي مع إصرار رئيسه على مواصلة الغياب.
خروج «آخر الأوفياء» من دائرة الإنتظار
مع إعلان الوزير شقير حركته السياسية خارج دائرة تيار المستقبل، إنضمّ من تبقّى من قيادات وازنة في «تيار المستقبل» إلى حركة شقير وأبرزهم النواب والوزراء السابقون: سليم دياب، رولا الطبش ومحمد رحّال. وهؤلاء يعتبرون من آخر «الأوفياء» الذين ثابروا على الالتزام وتأكيد الثبات مع الرئيس الحريري في خياراته السياسية، كما حضرت شخصياتٌ عارضت الرجل لكنّها أبقت على حبال الودّ من دون انقطاع مثل رئيس تحرير صحيفة «اللواء» صلاح سلام وكذلك شارك رئيس نادي النجمة أسعد صقال، بينما غاب الشيخ خلدون عريمط رغم ورود اسمه في الهيئة التأسيسية مع الوزير شقير.
بانخراط هذه المجموعة التي سبقتها شخصيات أخرى انسلخت عن «تيار المستقبل» أبرزها الرئيس فؤاد السنيورة، النائب أشرف ريفي والنواب السابقون: أحمد فتفت ومعين المرعبي وخالد الضاهر ونائب رئيس «التيار» الدكتور مصطفى علوش وغيرهم، تكون صافرة نهاية الانتظار لعودة الحريري قد أصبحت بمثابة التعميم السياسي العملي.
بعد إعلان ريفي إطلاق تيار «سند» والوزير شقير تجمّع «كلّنا لبيروت» بشخصياته المستقبلية البارزة، يمكن اعتبار هذه الخطوات رسائل إلى جمهور تيار «المستقبل» أنّ الانتظار لم يعد مُجدياً وأنّ الأولوية توجب مواكبة التحوّلات والسعي لإقامة التوازن بعدما أثبتت الوقائع أنّ الدعوة إلى الإنكفاء تسبّبت في خسائر كبيرة على مستوى الصراع مع «حزب الله» وعلى صعيد تأمين الفرص للبديل الأفضل.
الإطار الإقليمي لا يتجاوب
ما كان لافتاً في إعلان شقير أنّ التوقيت جاء بعد إعلان الاتفاق السعودي- الإيراني حيث اعتبر بعض مؤيّدي الحريري أنّه من المنطقي أن يُعاد الاعتبارُ بعده للحريري لأنّه رفض إشعال فتنة سنية- شيعية في لبنان وبالتالي فإنّ من حقّه الآن الإفادة من هذا المتغيِّر الكبير والعودة إلى الحياة السياسية بغطاءٍ عربي- إيراني.
لكنّ واقع الحال ليس كذلك، خصوصاً أنّه لم يُطلب من الحريري إشعال فتنة سنية- شيعية بل جلّ ما كان مطلوباً على مستوى السلوك الوطني هو الصمود السياسي فقط، وهذا ما قام بتحويره الحريري نفسه في مقابلة إعلانه أنّه المرشح الطبيعي لرئاسة الحكومة في برنامج «صار الوقت» بتاريخ 9/10/2020، وبالتالي فإنّه انفرد بقراره ربط النزاع مع «حزب الله» بينما كان الموقف يستوجب الالتزام بالاتجاه العام للموقف العربي.
خلاصة الموقف الإقليمي أنّ الحريري خرج من المشهد على وقع الصراع الإيراني السعودي وأنّ الاتفاق بين طهران والرياض يتضمّن الاستمرار في رفض عودته بعكس ما يروِّج البعض في مجالسه الخاصة وفي الإعلام.
أثبتت تجربة النواب أشرف ريفي وفؤاد مخزومي وإيهاب مطر أنّ الجمهور السنّي يتطلّع إلى مخارج تكسر الوهَن وحالة الاستضعاف التي اتُهم بها الحريري، بينما تؤكِّد الوقائع أنّ النضال السياسي ذو جدوى في الحفاظ على التوازن الداخلي كما حصل في الانتخابات النيابية الأخيرة عندما خسر «حزب الله» أغلبيته السياسية، والتي أسدى فيها الحريري للحزب خدمة كبيرة عندما أخلى الساحة للفراغ فساعد حلفاء «الحزب» السنّة على الاختراق بما لا يقل عن ثمانية مقاعد نيابية.
إختار شقير اسماً بيروتياً لحركته السياسية حتى لا يستفزّ المستقبليين بأنّه يريد العمل في كلّ المناطق اللبنانية، فيعتبرون ذلك تحدِّياً لهم، لكنّ ذلك لا يُجدي لأنّ شقير يعمل خارج دائرة الحريري، لأنّ مجرّد وجوده وأيّ شخصية سنية أخرى في الميدان السياسي هو من المحرّمات عند الحريري والأمين العام لتياره أحمد الحريري، ولن تشفع لشقير الاستجابة لدعوة «التيار الأزرق» إلى المقاطعة ولا المهادنة في المجالس الخاصة والعامة، ولا إبداء التسليم المبالغ فيه بهيمنة الحريري السياسية على الطائفة السنية... وقد عمل الأمين العام «للتيار» على تحجيم المشاركة في إطلاق تجمّع «كلّنا لبيروت» من خلال اتصالات مكثّفة أجراها لهذه الغاية.
كيف يمكن لشقير العبور؟
ثمّة تحدٍّ آخر يواجهه شقير بعد إطلاقه حركته السياسية، وهو مدى قدرته على حياكة علاقة سياسية متقدِّمة مع قيادة المملكة العربية السعودية، فرغم قربه الظاهر من السفير السعودي وليد البخاري، إلّا أنّ ذلك غير كافٍ ليتأهّل لدخول نادي رؤساء الحكومات، أو حتى العودة إلى الوزارة، خاصة مع إعادة إحياء الملفات- الإشكالية المتعلّقة به عندما تولّى وزارة الاتّصالات، ما يدفع إلى التساؤل: هل تنطبق على شقير المواصفات الإصلاحية المطلوبة للمرحلة المقبلة؟
يجب الاعتراف هنا أنّ ما يقدِّمه شقير في المجال الاقتصادي من رؤية وإدارة وسلوك يحمل مؤشرات إلى إمكانية نجاحه في تقديم حلول قابلة للتطبيق لمواجهة الانهيار سواء على مستوى القطاع الخاص أم العام، وهذا اتجاهٌ تحدُّ منه الدعاية السلبية التي يواجهها شقير منذ «فاتورة الواتسآب» الشهيرة ومجمل ما يتعلّق بعمله في وزارة الاتصالات، والتي كانت حينها تخضع بشكل أو بآخر للإدارة السياسية للرئيس الحريري وفريقه مع ما تحمله تلك المرحلة من أثقال.
غير أنّ الإشكالية الكبرى التي تعانيها محاولات الاستنهاض السنّية هي عدم الوصول حتى الآن إلى مرتقى العمل السياسي المؤسساتي واقتصار فعالية هذه التجمعات على قدرة المؤسس وإمكاناته، وهذه الإشكالية وقع فيها الجميع وأولهم «تيار المستقبل» بينما يراوح معارضوه في المساحة نفسها، فهل يخرج هؤلاء إلى فضاء المؤسسات أم يغرقون في عقدة الشخصانية والأنا السياسية؟