لميا مبيّض البساط

نافذة نور من شباك الأزمنة الصعبة

28 آذار 2020

05 : 10

أفضل زمن تَظهر فيه القامات هو زمن الأزمات، والقادة تستولدهم المِحَن. حقبة كورونا نموذجية لولادة هؤلاء الذين ستُناط بهم قيادة المرحلة المقبلة.

فألُ البشرية حسن رغم السواد الحالك راهناً. لحُسن حظّها، تَظهَرُ في كلّ القطاعات تقريباً، شخصيّات مميزة بقدرتها على المبادرة واتخاذ القرار وتحفيز الآخرين.

معظم هؤلاء، من علماء ومهندسين وعاملين في شركات ومؤسسات صحيّة، ومؤسسات المجتمع المدني، وغيرهم، كانوا حتى الأمس القريب غير مرئيين من العموم، غائبين عن مسارح التشاوف وشاشاته، وبلاتوهات المؤتمرات، ومهرجانات الـ "communication" ومباريات الـ "looks" والـ "style".

يَعملون بصَمتٍ. بعيداً عن الأضواء. لا وقت لديهم إلا لتسيير الأعمال وتصويب المسارات وتصحيح الأخطاء وتحفيز فرق العمل والتخطيط واستشراف المخاطر... لا يهابون القرار ولا يطلبون دعماً ولا تغطية من أحد. يغطّيهم ضميرهم.

هؤلاء اليوم أصبحوا بفعل انتشار فيروس الكورونا في خطوط الدفاع الاماميّة عن بشريّة مأزومة فاقِدة للبوصلة. يعملون من دون أنانية لوقف انتشار الفيروس ولتوفير العناية بالمصابين وللحَدّ من تَبِعاتِه الصحية والاقتصادية على بلدانهم والعالم. ينتظمون في فرقٍ اليوم بغية التغلب على تحديات COVID-19 ويعملون على معالجة آثاره القادمة منذ الآن.

من بين هؤلاء على سبيل المثال القيّمون على مصانع الأدوية التي لم تتوقف عن انتاج العقاقير المطلوبة لمكافحة الالتهابات الرئوية بالرغم من أن مصانع عديدة توقفت عن انتاجها لصالح أدوية أكثر ربحيّة.

هؤلاء قادة حقيقيون رؤيويون يستحقون التحيّة علماً أنهم يواجهون اليوم تحديات من نوع آخر أهمها إبقاء مصانع المضادات الحيوية منتجة، رغم انخفاض عدد العمال نتيجة الأزمة وإضطرار شرائح واسعة للإلتزام بالحَجر الصحي في المنازل.

ومن هؤلاء أيضا القيمون على مصانع إنتاج فحص فيروس الكورونا حيث لا ينفك يتصاعد الضغط للحصول على نتائج اختبار سريعة ودقيقة، وكذلك مصانع إنتاج وحدات التنفس الاصطناعي التي يتناقص عددها بشكل حاد عالمياً. فالمصنع الأكبر في العالم وهو مدترونيك في غالواي في إيرلندا، التزم علناً بمضاعفة الإنتاج من 5000 إلى 10000 وحدة شهرياً، وهو يصارع اليوم تحديات الحصول على المواد الأولية بسبب اضطراب حركة النقل وصعوبة توظيف وتدريب موظفين جدد بالأعداد الكافية. وأخيراً، مشاكل فرز الطلبات الدولية الضخمة من المستشفيات والحكومات والإستجابة السريعة لها.

في لبنان، مبادرات جريئة ذكيّة بدأت تظهر للعلن ومنها تلك التي يقوم بها الفريق الهندسي والمعلوماتي بقيادة الصناعي النائب نعمت افرام واختصاصي المعلوماتية وسام يوسف لتصنيع وحدات تنفّس "صُنِع في لبنان". هذه المبادرة تثبت حيوية قطاع الصناعة والتكنولوجيا بالنسبة للإقتصاد وقدرة اللبنانيين على تثمير الكمّ الهائل من العلوم والخبرات المكتسبة داخل وخارج لبنان في إنتاج حلول مبدعة قد تساهم، اذا ما كُتب لها النجاح، في مجهود عالمي جبّار لمواجهة تحدٍ غير مسبوق يطاول البشريّة جمعاء.

تُثبت هذه المبادرة ومثيلاتها في الجامعة اللبنانيّة وجامعة القديس يوسف أننا لسنا كلّنا منتظمين مستسلمين ولا راغبين في الإنصياع لمشروع مجتمع الاستهلاك والاركيلة والعيش الرغيد على فضلات الفوائد المصرفيّة.

في بلادنا، مُجتمعٌ منتج مُبدعٌ لديه قدرات كامنة قادرة أن تواكب وتنافس وتساهم في مجتمع المعرفة والإنتاج، وتصل إلى العالميّة كما فعلنا يوماً في بداية ستينات القرن. ولمن فاته القصد فليَفتَح رابط الانترنت ويبحث عن وثائقي منسيّ يجب أن يُصبح مادةً الزاميّة في المنهج الرسمي، وضعه المخرجان الفذان خليل جريج وزوجته جوانّا حاجّي توما.

تكاد البشريّة تعيش اليوم أعظم أزمة في تاريخنا الحديث يُمكن أن تتسبب بركود يشبه الركود العظيم في عشرينات القرن الماضي. في أزمة كهذه، وفي الأزمة الأقسى التي بدأت تُطل علينا جوعاً وافلاساً ويأساً، لا يوجد مكان لقادةٍ يمضون وقتهم في النقاش والكلام والتفاخر الفارغ والمبالغة في تقدير إمكانات ليست بمتناولهم.

لا يوجد مكان لاستخدام هذه الأزمة لتحقيق مكاسب تنافسية أو دعاية شخصيّة أو مؤسساتيّة.

هناك فقط الوقت لمن يمتلك القدرة على التواضع والانفتاح وتحفيز المبدعين على العمل الجماعي لإيجاد الحلول.

قادةٌ في كلّ القطاعات وعلى كلّ مستويات القرار، يميّزهم الصدق والواقعيّة والرغبة في العمل بمحبّة وبإخلاص، من دون الحاجة لمن يطلب منهم ذلك أو من يشكرهم ويكرّمهم ويُعلنهم قادة أو أبطالاً.

التحديات اليوم تكمن في تقديم الرعاية الصحيّة وما تواجهه من صعوبات لوجستية، استطاعت أن تُخرج إلى العلن أفضل المواهب العلمية والتقنية في البلاد لمعالجة تعقيدات فيروس COVID-19.

لكن تحديات الغد القريب هي من النوع المعقّد المتداخل والصعب، ولا بدّ من التحضّر لها منذ اليوم عبر استقطاب هذا النوع من القياديين الجريئين المخضرمين المُجرّبين.

حان الوقت لقادة الأعمال والقياديين في مؤسسات المجتمع المدني وغيرها، من الذين اثبتوا بالبرهان والتجربة قدراتهم القياديّة في مسك زمام الأمور والمبادرة.

حان الوقت لمجتمعنا أن تُحتَرم قُدراته الكامنة، وهو القادر فِعلاً على مساعدة نفسه والعالم على شق طريق الفرج في هذا الزمن الصعب.

لا أجد في هذه العجالة كلاماً أكثر وقعاً على الآذان والضمائر من كلام المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل حول الأزمنة الصعبة وما تخلقه فينا.

أنا ممتنةٌ، تقول ميركل، "لكل الأوقات الصعبة التي مررت بها. إلى كل الدموع التي ذرفتها لأنها جعلتني أقرب إلى الله وصنعت مني المرأة القوية التي أنا عليها اليوم"!

لسنا بحاجة إلى استشارة لنثق أن لبنان الغد لا يجب أن يشبه ما تعوّدنا عليه والآتي لناظره قريب... إن شاء الله وإن شِئنا.

MISS 3