د. منى فياض

هواجس الأقلّيات المستجدّة في زمن الكورونا: المسيحيون والسنّة (3/‏3)

31 آذار 2020

05 : 00

أثار فيروس كورونا حساسية مريدي الشيعية السياسية المتهمة باستجلاب الوباء وفتح باب المناوشات على مصراعيه. ربما خافوا ان اتهامهم بجلب الوباء ونقله لهم وللآخرين سيضعفهم!! من هنا اعتراضهم ورفضهم لأن شعورهم بالقوة والتفوق والاستقواء على الآخرين، والذي أمنته لهم هويتهم الشيعية التي نجح "حزب الله" في اثارتها واستغلالها واقناعهم انها مهددة من قبل الداعشيين والسنة، بات مهدداً.

وللأسف وبداعي الميميتيسم (المحاكاة النفسية) والتاريخ والحروب والاوضاع التي نعانيها، يتحول اي طارئ لمناسبة تجعل اللبناني يشعر انه مهدد في انتمائه الهوياتي المتعصب الذي يريد ان يتمايز به عن الآخرين.

كما يستعيد بعض مسيحيي لبنان خوفهم كأقلّية دينيّة تعيش في بحر من المسلمين. تلك المخاوف التي ابتدأت مع بروز التيارات الاسلامية المتشددة التي ظهرت مع قيام الجمهورية الاسلامية في ايران وردة الفعل الاصولية السنية التي تبعتها، والصراع السني – الشيعي الذي تجسد بمحورين تقودهما كل من ايران والسعودية، والاحداث المتتابعة من حرب العراق الى حرب سوريا وبروز الارهاب وداعش على خلفية فشل الانظمة العربية في التنمية او في تحرير فلسطين. كل ذلك زاد من تفاقم هواجس وتخوف المسيحيين كأقلية مستهدفة على استمرارية وجودهم، فاستعادت الهويات العضوية الثابتة مجدها. أما السنّة فبدأوا حمل مظلومية مستجدة ومؤهلة للتصاعد في مواجهة التحالف بين الثنائية الشيعية والعهد في مقابل زعامتهم المفتقدة واعني بها الحريرية. وهذه المظلومية مؤهلة للتجذر.

وهذا هو الحال دائماً، يتسبب الخوف وانعدام الأمن استثارة الهويات القلقة ويبرزها. والكورونا اعتبر اختباراً حتى في الديموقراطيات الغربية، فلقد شكل اختباراً للمزاج العام وأعطى دفعاً للاتجاهات الشعبوية المناهضة للعولمة والمطالبة باغلاق الحدود، واقامة الحواجز بين البلدان الى درجة اقفالها على خلفية الرغبة في طمأنة الناس، بأن إبعاد "الأجانب الحاملين للفيروسات" وسيلة اكثر فعالية من التدابير الصحية المفترضة. ومع ان الوباء يتطلب التنسيق والتعاون الانساني وتبادل المعلومات العلمية والبحثية لمواجهة خطر الفيروس الداهم نجده أظهر بشكل مفارق ظاهرة الانعزال والانكفاء الهوياتي، سواء كان دينياً أو ثقافياً أو قومياً، غافلين عن ان العدو الذي تقاتله اصبح داخل الحدود ايضاً. واذا كان التشرذم احد عوارض الفيروس الجانبية مقفلاً المجال العام؛ لكن من قبل كورونا كان يسود العالم الآن اتجاهان، واحد نحو التقوقع من الفئات التقليدية المحافظة من الجيل القديم (عبر عن نفسه بالبريكست)، والآخر معولم ومنفتح من الاجيال الشابة ذوي الثقافة المعولمة التي رفضته...

لكن حركة التاريخ تتجه نحو العولمة، ولا بد من العودة الى الفكرة التي بلورها كانط عن السلام الدائم بين الدول، وسعى كي لا يكون مجرد حالة بين حربين، مقترحاً ما يشبه معاهدة ورسالة سلام. والسلام ممكن لأن البشر يميلون بحكم الضرورة لبناء عالم يشعرون فيه بالأمن لكن أيضاً بالحرية. كما أنه ممكن (داخل الدول وفي ما بينها)، بواسطة سياسة تحترم القانون المرتكز على الاخلاق والعقل. تعرّض مشروع كانط للنقد بالطبع، واتهم بالطوباوية. لكن أثره كان كبيراً، وعند الاشارة اليه نفكر بديهياً بمنظمة الأمم المتحدة (ONU)، وبالمحكمة العليا الدولية للعدالة (CPI) وحتى الغات GATT التي اصبحت المنظمة العالمية للتجارة (OMC)، لأن التجارة لا تتماشى مع الحرب. وبالاتحاد الاوروبي بالطبع. والآن بضرورة والزامية التعاون الدولي ولو شابه التنافس.

هناك فرق بين العلاقات داخل الدولة ذاتها وعلاقات الدول في ما بينها. تدير العلاقات داخل الدولة القوانين المطبقة من قبل سلطة تنفيذية فينتج عنها تلاحم داخلي معقول. وكانت العلاقات الدولية ترتكز تقليدياً على علاقات القوة، ففرضت الازمة ضرورة وأولوية التنسيق والتعاون الدولي. المطلوب عولمة انسانية تضع البشر وبيئة الكرة الارضية في رأس اولوياتها.

على كل حال هناك الكثير من الاحداث غير المفهومة. نحن الآن أمام شيء جديد وعميق يحصل في العالم، يجعله عصياً على الفهم.


MISS 3